الثلاثاء، ٢١ نوفمبر ٢٠٠٦

الغريب ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى

الغريب
قصة محمود البدوى

سمعت رقية الكلاب تنبح بشدة .. فأطلت من باب الكوخ وحدقت فى الظلام فوجدت أنها تحاصر رجلا يصعد التل وقد سدت عليه الطريق وأخذت تتوثب حوله وتتهارش فجرت تدفع الكلاب عن الرجل بصوتها ويديها .

ونظر إليها الرجل وهو يحاول أن يتحرك بصعوبة .. كانت الكلاب قد نهشته فى أكثر من موضع من جسمه .

ولما رأت رقية الدم على ساقه .. جرت وحملت المصباح من داخل الكوخ وسقط الضوء على وجه الرجل .. فعرفت أنه غريب عن العزبة وعن أهل القرية .. وكان وجهه أسمر .. نابت اللحية .. خفيف الشارب ..

وأخذ يرش على الجرح التراب الناعم .. ليوقف الدم ..

فقالت وهى تقرب المصباح ..
ـ عنـدنا قليـل من البن .. هل تستطيع أن تمشى إلى الكوخ ؟ ..
ـ أستطيع .. لقد خف الألم .. وأريد أن أشرب .
ـ تفضل ..

وقالت لما بلغا باب الكوخ واستراح الرجل الجريح ..
ـ لماذا مررت من هناك .. وهيجت عليك الكلب ؟ .. الطريق من شرق ..
ـ أنا غريب .. ولا أعرف طرقا .. فاتتنى المعدية .. وخرجت من الساحل فوجدت الظلام من حولى ولم أجد غير الضوء فى كوخكم .. فسرت إليه .. لماذا كل هذه الكلاب ..؟
ـ ليس عندنا سوى كلب واحد ..
ـ والباقى ..؟
تتجمع دائما على الغريب ..
ـ لقد نجوت منها .. لأنها انقسمت فريقين .. وأخذت تتهارش .. وتتقاتل .. أدرك بعضها أنى غريب وأحتاج للمساعدة .. حتى الكلاب فيها الأخيار والأشرار ..

وابتسمت المرأة ..
ـ ولكن لماذا تسير فى الليل .. وليس معك حتى عصا ؟
ـ هكذا تعودت .. لم أكن أقدر .. أنى سأتأخر .. ذهبت من الفجر إلى السوق لأشترى جاموسة ..
ـ ولماذا لم تشتر ..؟
ـ وجدتها غالية .. قالوا لى أن الجاموس فى جهات ملوى رخيص ولكنى وجدتها غالية بثمانين وتسعين .. ومائة جنيه .. وعندنا فى سوق الاثنين .. وسوق الحواتكة .. أرخص .. وأوفر المشوار ..

وخيم الصمت ..

وسألت وقد رأت الاعياء على وجهه ..
ـ جائع ..؟
ـ لم آكل منذ الصباح ..

ودخلت الكوخ .. وخرجت تحمل له الطعام ..

فقال وهو ينظر إلى وجهها الصبوح ..
ـ حتى الطعام نصيب ..

فابتسمت .. وأخذت تراقبه ـ وهو يأكل ـ صامتة .. كان وجهه وجه إنسان يتألم ..
وقالت ..
ـ لو رآك همام .. وأنت مار من تحت كان " طخك " ..
ـ هل فى أرضكم ذهب ؟..
ـ ليست الأرض هى السبب .. وإنما البهائم ترعى طول الليل .. منطلقة من العزبة دون أن يحرسها أحد .. وندر أن يمر من هنا الغريب .. ندر ..
ـ ولهذا كلابكم مسعورة ..
ـ إنها لاتحب الغريب ..
ـ وكيف أخرج من العزبة ..؟

وفكرت قليلا .. ثم قالت ..
ـ سيأتى همام .. بعد قليل .. ويمشى معك ..

وبرغم خواطرها التى كانت تشغلها لم يمنع الأمر من أن تكرمه كضيف .. ففرشت له حراما ليتمدد .. حتى يأتى زوجها ..

واضطجع الرجل .. وجاء كلب ضخم وربض بجانبه ..
وغفا .. واستيقظ بعد منتصف الليل .. على زمجرة الكلب وهو يرحب بمقدم صاحبه .. وتحدثت رقية مع زوجها .. وأشارت إلى الرجل الغريب .. فتقدم همام اليه يفحصه ببصره .. ثم صافحه ..

وجلس الرجلان يتحدثان .. وعيونهما تبرق فى الظلام .. وكان السكون شاملا وكان همام جامد الملامح ولايعبر وجهه عن شىء ..

***

ووضع الرجل الغريب رأسه على الفراش .. ونام همام مثله خارج الكوخ والبندقية بجانبه .. وظلت رقية .. ساهرة .. ثم غلبها النعاس فنامت وهى جالسة .. فى مدخل الكوخ ..

ولما فتحت عينيها .. كان الرجل الغريب يصلى الفجر .. ثم سوى ملابسه وطوى الحرام ووضعه بجانبه ..

وسمع صوت رقية ..
ـ ذاهب .. هكذا .. فى البكور ؟
ـ أجـل .. يجب أن يرانى الأولاد قبل الشمس .. وإلا شغلوا ..
ـ مع السلامة .. سأحبس عنك الكلاب .. اتجه إلى الشرق .. واجعل غيط الأذرة على يمينك دائما ..

ولمـــا هم الرجـل بالانصراف .. سمعت رقية زوجها يقول ..
ـ سأرافقه .. حتى يخرج من العزبة ..

ونهض همام .. وتناول بندقيته .. ونظرت المرأة إلى زوجها .. ولم تنبس وسار الرجلان فى الطريق ..

***

وبعد ساعة .. رأت زوجها عائدا .. ودخل صامتا وعلق البندقية .. ووضع شيئا فى شق الحائط ..

فنظرت وذعرت ..
ـ ما هذا انه منديل الرجل .. و .. و .. نق .. ونقوده

فنظر اليها همام وقال بهدوء ..
ـ أعطانى .. ثمن الجاموسة .. سأشتريها له من سوق السبت ..

فحدقت فى وجهه دون أن تطرف .. ثم وضعت ماسورة البندقية عند أنفها .. وقالت بصوت مبحوح ..

ـ لقد قتلت الرجل .. الذى استجار بك من الظلام .. أى عار .. شرير .. قاتل ..

ـ أخرسى يا كلبة ..

ـ لقد غرق لك ابن .. وأكلت النار الثانى .. أما الثالث الذى فى بطنى .. فلن تراه .. لن تراه .. لن تراه ..
ـ ستخنقينه .. ؟
ـ لن تراه .. لن أجعله يرى وجه قاتل .. شرير ..
ـ أخرسى ..

وتركها وهو يلوح بيده وخرج ..

برغم كل ما سمعته عنه ولكنها كانت تكذب نفسها وتكذب الناس لم تكن تتصور قط أنه قاتل .. ولكن الآن كيف تخادع نفسها وقد لمست كل شىء ..

تبعته وركزت حواسها ورأته قد أخذ يدور ويهبط المنحدر .. وتناولت البندقية نفسها سريعا ..

وصوبت .. ثم أطلقت النار .. ورأته يتدحرج ثم يسقط فى الوحل .. ولما رفعت عينيها عن الماسورة .. رأت حمامة بيضاء .. تحلق فى الجو ثم رأتها تهبط لأول مرة على سطح الكوخ ..
============================
نشرت القصة فى صحيفة الشعب المصرية فى 9101956 وأعيد نشرها بمجموعة حارس البستان 1961 لمحمود البدوى


الصقر ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى


الصقــــــر
قصة محمود البدوى

اشـتهر " الخـط " فى الصـعيد وأصـبح اسـطورة ، واشتهر " زهران " فى رقعة الدلتا وكاد يصبح اسطورة .

ولم يكن أحد يدرى كيف استوطن قرية " النخيل " وعاش فيها ، إذ لم يكن له أهل ، ولا بيت فى القرية .

وعندما دخل القرية لأول مرة ، ومشى فى دروبها ، وكان فى ذلك الوقت فى الثلاثين من عمره ، لم يجد أمامه غير دكان " عبد الحليم " فابتاع علبة سجاير ، وجلس على المصطبة هناك .

ثم أصبح المالك للبيت الملاصق للدكان . وكان يزرع قطعة الأرض ، ليعيش من غلتها كغيره من الفلاحين . ثم انقطع عن الزراعة ، وأصبح يعيش من طلقات الرصاص ..

كان الناس يؤجرونه لقتل أعدائهم وغرمائهم نظير أجر قليل .. ثم ارتفع الأجر لما قويت سطوته وذاع صيته .

وفى مدى سنوات قليلة أصبح الخط البيانى لشهرته يتحرك فى صعود ، ككل فتاك فى الريف .

وكلما ازداد جبن الناس فى القرية التى يعيش فيها ، والقرى المجاورة لها .. اشتدت سطوته وجبروته ، وطار اسمه فى المنطقة حتى أصبح مكمن رعب الناس جميعا ، وأصبحت الأمهات يخوفن به الأطفال .

وهو مع كل صفاته .. ولكنه اتخذ لنفسه خطة حمدها له الناس فى القرية .. ذلك أنه ابتعد بجرائمه عن القرية التى يقيم فيها .. فلم يكن يقبل أن يؤجر ليقتل أى شخص من أهلها .. ابتعد عن دائرتها كلية .. وعاشت القرية فى أمان من شره ..

ولكنه كان يقبل التحرك فى كل ما عداها من القرى ، ويسافر وراء الطريدة .. يركب القطار ، والسيارة ، والخيل ، والبغال والحمير .. وحتى الجمل .

ويستعمل البندقية والمسدس .. ويصيب من أول طلقة .
ولم يكن أحد يدرى من أين أوتى براعة التسديد ، كان نادر المثال فى التصويب .. قوى البصر ، ثابت اليد ، رابط الجأش ، يطلق النار وهو على ظهر الفرس ، وهو فى جوف السيارة ، وهو منبطح فى الجرن ، وهو كامن فى المزارع .

وكان فى صباح اليوم الذى يكون قد أطلق فيه النار بالأمس ، وأزهق روحا بشرية لاذنب لها .. يجلس فى مقهى صغير على " الرياح " يدخن الشيشة ويتحدث فى مرح مع صحبة .. هادىء الأعصاب .. ثابت الجنان .. لاتحركه حتى الزلازل .

ومن حوله الاتباع من ضعاف النفوس ، وحثالة البشر ، يسبحون بجسـارته ، ويشـيدون بصـفاته ، فيزيدونه صلفا وضراوة .

ومن المقهى كان يتحرك إلى البيت ، أو إلى الطريدة .
وكانت الحوادث تحدث وتمضى .. وتطوى صفحاتها ، لأن أحدا لايجرؤ على اتهامه .. جميع الدلائل والقرائن تشير إليه ، ولكن اسمه لايجرى على لسان شاهد فى التحقيق .

وكلمــا مرت الأيام ماتت أرواح الناس ، وضاعت نفوسهم ، تحت جبروت هذا الشرير .. وتخاذلت قواهم ، وضعفوا ، واستكانوا ، فلم يواجهوا الشر ، ولم يتصدوا له .. وجعلوه يستشرى ويتضخم .

وجعلهم الرعب لايحرسون فى الليل أجرانهم ولا محاصيلهم ، ولا مواشيهم .. وكثرت حوادث السرقة والسطو .. واضطرب زمام الأمور .. وانخفض المحصول وقل المال ، وكثرت بينهم الدسائس والفتن .

خيم الرعب فأفسد جو الحياة .

وحاول نفر من العقلاء فى القرية أن يجعلوا الناس يتنبهون لهذا الشر .. ويستأصلونه من جذوره .

ولكنهم كانوا يرتدون خائبين ..

ويقال لهم :
ـ ما دام يبعد بشره عن القرية .. فلا شأن لنا به ..!
ـ انه سيتحول اليكم بعد أن يفرغ من سواكم ..
ـ انه بعيد عنا .. ولا داعى لاثارة غضبه ..!

هكذا استمر " زهران " يصول ويجول فى الميدان ..

***

ولكن حدث ما هز من جبروته بضعة أيام .. لأمر لاعلاقة له بالجسارة وبطلقات الرصاص ، فقد تقدم ليزوج ابنه " سالم " من فتاة أسرة معروفة فى القرية ، فرده والد الفتاة ، وصرفه بالحسنى .. ويقال انه قال له كلاما أغضبه .

وكثر اللغط فى القرية بعد الرفض .. وكان الناس يتوقعـون أن يثور " زهران " ويقتل الشيخ صابر والد الفتاة .

ولكن لم يحدث شىء من ذلك .

والحادث على بساطته ، ومع أنه يمكن أن يحدث لأى شخص يتقدم للزواج .. فاحتمال الرفض والقبول مألوفين فى مثل هذه الحالات .. ولكنه مع " زهران " بجبروته يتخذ شكلا آخر .. فقد هز الرفض صلفه .. والأمور يأخذ بعضها برقاب بعض ، بالنسبة للشخص الجسور فعندما يميل ميزانه فى شىء يميل فى كل شىء ..

***

فى وقت الظهيرة وكانت شمس يوليو حامية ، انطلق كلب مسعور فى دروب القرية .

وطارد غلاما صغيرا ، ومزق ثوبه وعلا الصراخ ، وتجمهر الأهالى وراء الكلب بالعصى والنبابيت .. وسمع " زهران " بالخبرثم رآه .. وكان جالسا فى دكان " عبد الحليم " ورأى الناس جميعا تنظر إليه كالمنقذ الوحيد من ضراوة هذا الوحش .. فتناول بندقيته سريعا وجرى وراء الكلب ، الذى أخذ الفلاحون يطاردونه فى العرصة ، وهو يفتح عليهم أنياب وحش كاسر .. وقد انقلب بعد السعار الذى أصابه إلى ضبع .

وصوب " زهران " بندقيته وأطلق ولكنه أخطأ الكلب .. فتلفت الناس بعضهم إلى بعض بعد أن رأوا الحسرة على وجه الصياد .

وتقدم الكلب الذى أخطأته الطلقات فى وثبة الليث ففزع الأهالى وانتابهم الرعب .

وفى هذه اللحظة اطلق غلام فى الخامسة عشرة من عمره النار .. فخر الكلب صريعا .. وذهل الناس ..

وسأل " زهران " وقد اصفر وجهه :
ـ من هذا الغلام .. أمن بلدنا ..؟
ـ أبدا إنه من تلوانه ..
ـ ابن من ..؟
ـ انه حسن ابن المرحوم عبد الغنى ..

فحملق فيه " زهران " وارتعش بدنه وسأل :
ـ هو .. عبد الغنى له ولد ..
ـ أجل .. وكان فى بطن أمه .. عندما قتل والده ..

وانفضت الجموع ، وشعر " زهران " لأول مرة فى حياته بالتخاذل ..

***

وبعد أيام قليلة من حادث الكلب .. تسلق ذلك الغلام حائط المنزل الذى يقيم فيه " زهران " وعرف قاعته .. دفع الباب برجله فى الظلام ، ولما دخل القاعة لم يجد فيها أحدا .. وفتش عنه فى كل مكان فى البيت فلم يجده ، فأدرك أن ذلك الخنزير لاينام فى بيته قط .. ولم يفعل ذلك أبدا منذ أخذ يطلق النار على الناس ..

كان فى الواقع أكثر منهم جبنا .

وكان شبح القتلى يطارده فى الليل .. وتوقع القصاص ، ولذلك كان يغير مكانه ، وفى كل ليلة ينام فى جهة .. مرة فى ساقية .. ومرة فى مزرعة ، ومرة أخرى فى جرن ، وأخرى رابعة فى بستان نخيل ..

ومضت أسابيع .. والغلام الذى ربته أمه منذ شاهد نور الحياة على أن يثأر لأبيه .. لم يكن يشغل تفكيره أمر غير هذا .. ولكنه كان متأنيا يرسم الخطة باحكام وصبر ، ويريد قبل كل شىء أن يمحو من أذهان الناس الهالة التى كونوها عن هذا الشيطان .. فهو رجل عادى .. ككل الناس ويحس بالخوف مثلهم .. ويكون أحيانا أجبن من الكلب .. ويطلق النار .. ويخطىء ويصيب كأى رجل .. ولكنه أحاط نفسه فى براعة بنفر من الأتباع ضخموه .. وضخموه .. وهذا هو مكمن الرعب ..

وتحرك الغلام ذات ليلة ، ووقف على رأس " زهران " وهو نائم فى بستان فأيقظه بحذائه .. وفتح هذا عينه مرعوبا ..

وقال له الغلام والرشاش فى يده :

ـ اننى لست جبانا مثلك حتى أقتلك وأنت على هذه الحالة كما قتلت والدى .. أصح ..

وتصارع الصقر مع الشرير مواجهة واشتد الصراع وأطلق " زهران " ثلاث رصاصات .. وصرع الصقر الشرير من أول طلقة ..

وعندما علمت القرية بمصرعه ، انتقل الخبر بسرعة الهشيم إلى كل القرى المجاورة ، فخرجت الجموع كالسيل الهادر ..

وجروا الجثة على السكة الزراعية .. وانفجر غيظهم ليمزقوها ويشوهوها .. ولكن " الصقر " منعهم وهو يزمجر غضبا ..

وصاح فيهم :
ـ للجثة حرمتها .. أيها الجبناء .. حتى ولو كانت للشيطان ..

ووقف يحرسها حتى دفنت ..

وحلقت حمامة بيضاء فى الجو .. ولم يكن أحد قد شاهد الحمام يحلق منذ سنين وسنين ..
=================================
نشرت بمجلة الثقافة المصرية بالعدد 24 فى سبتمبر 1975 وأعيد نشرها بمجموعة الباب الآخر لمحمود البدوى عام 1977
=================================

الرماد ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى






الـــرماد
قصة محمود البدوى

كانت الليلة شديدة الظلمة .. والريح تعوى فى البساتين .. عاصفة بأوراق الاشجار وسعف النخيل .. وكانت بداية رياح الخماسين على منطقة الصعيد .. ولم تخف وطأتها بالليل كما كان متوقعا بل ظلت تهب على قرية المعصرة محملة بالرمال والغبار ولم يكن للفلاحين سبيل إلى مقاومتها غير الاحتماء فى البيوت .. وحبس الماشية .. فى الحظائر .

وكان الغبار الشديد قد حجب الرؤية تماما .. ولف القرية فى مثل الضباب الأشهب فزاد من وقع الظلام وخفت الرجل فى الدروب ولم يعد يسمع إلا نباح الكلاب .. كلما بصرت بشبح يتحرك فى جوف الليل .

وكان هناك رجل يمشى .. فى قلب الزوبعة .. غير حافل بها ويتجه إلى القرية بخطى ثابتة وكان قد عبر النيل من البر الغربى فى زورق صياد رماه عند الغسق تحت القرية وظل الرجل فى مكانه تحت الريح حيث أخرجه الصياد منتظرا الساعة التى قدرها لتحركه .. ولما مالت النجوم انحدر سعيا إلى القرية..

وكان نباح الكلاب يشتد وهو يقترب والظلمة تبدو أكثر جهامة .. ولكن الزوبعة كانت قد خفت نوعا وخف ما تحمله من أتربة وأصبحت الرؤية مستطاعة فى ظل الأضواء الشاحبة المطلة من طاقات البيوت .

ولما أصبح على مبعدة نصف فرسخ من القرية جلس بجانب قنطرة هناك يدور بعينيه فى الظلمة وقد خلع البندقية عن كتفه .. ووضع العباءة الحمراء.. على الأرض بعد أن طواها طيتين .. وأمسك بخزان الرصاص يتفحصه ثم أداره على وسطه ، وأشعل سيجارة ثم أطفأ رمادها .. ونهض واتخذ طريق النخيل .

وكان حسان يدخل قرية المعصرة لأول مرة منذ عشر سنوات .. مع إنها على مبعدة ثلاثة فراسخ من قريته ومتداخلة فى زراعتها ولكنه كان قد أقسم منذ أن قتل والده غيلة وهو راجع من السوق ألا تطأ قدمه أرضها إلا بعد أن يقتص لأبيه ويأخذ بثأره فقد كان حسان أكبر أخوته وكان عليه وحده أن يغسل الدم الذى لوث الأسرة ويمحو العار ..

ولكن القدر كان له بالمرصاد .. فقد مات الرجل الذى قتل والده موتة طبيعية بعد شهر واحد من الحادث ولم يمزق جسمه الرصاص .. كما كان يتمنى .. وترك القاتل غلاما يدعى عباس فى الثانية عشرة من عمره .. وكان حسان يود أن يقتله .. ولكن أم حسان منعته من قتله حتى يشتد ساعد الغلام ويمسك البندقية مثله وهنا يتصارع الندان والا يصبح الثأر مهزلة وأضحوكة الفلاحين .

ولما بلغ عباس مبلغ الرجال ترصد له حسان وعرف كل تحركاته فى الليل والنهار .. وخرج له فى هذه الليلة ليطارده ويرديه .. وكان الغضب يثير دمه .

وتمثل له حادث مقتل والده الذى حدث منذ سنوات طويلة وكأنه قتل منذ ساعة فرجع يحرق الارم .. ويعض على نواجذه غيظا .. وتقدم بين أعراش النخيل .. حتى رأى نورا ينبعث من بيت صغير خارج القرية فاقترب منه .. فلما كان على بابه وجد طفلا صغيرا على العتبة . فطلب منه أن يشرب .. وخرجت أم الطفل بالكوز ووقفت سافرة تتأمل وجه الرجل الغريب وهو يروى ظمأه .

وسألته :
ــ هل أنت قادم من السوق ؟
ــ أجل .. وتأخرت .. كما ترين ..
ــ يبدو لى انك لم تشتر شيئا ..
ــ كنت أود أن أشترى بقرة .. بدل التى نفقت فى « البرسيم » ولكننى وجدت البقر غاليا جدا .. فرأيت أن من الخير لى أن أشترى من سوق السبت..
ــ اذهب .. إلى بيت عبد الصبور .. انه يتاجر فى البهائم .. وهو يستطيع أن يشترى لك بقرة رخيصة .. من منفلوط أو الحواتكة .. أو حتى من ديروط.. أنه يتردد على هذه البلاد كلها ..
ــ فكرت فى هذا على التحقيق .. بعد أن خرجت من السوق
ــ أو تعرف بيته .. ليذهب معك هشام ..
ــ الشكر لك .. اننى أعرف مكانه .. وسأجده الساعة فى مقهى القرية .
ــ أجل انك ستجده فى مقهى رميح .. يشرب الشاى هناك وربما كان يلعب الورق مع الفتيان .
ــ كتر خيرك ..

وحركت المرأة طرحتها ولمست بها شفتيها الرقيقتين .. وهى تتحدث كأنها تغطى أسنانها اللؤلؤية فتزيدها بريقا وصفاء أو تزيد من جمال وجهها .. وكانت ناضرة المحيا وهى سافرة .. ولكن هذه الحركة التقليدية زادتها فتنة .

وكان حسان يرى فيها وجه أمه قبل أن تترمل .. ويذبلها الحزن والاسى .. بعد مصرع والده .. وشكرها وانصرف ..
وظلت المرأة تلاحقه ببصرها حتى بعد أن أبعد ودخل فى الظلمة ..

***

وكان حسان يعرف أن غريمه عباس يجلس فى هذه الساعة فى المقهى الذى فى الدرب الرئيسى والذى يشق القرية نصفين يشرب الشاى .. ويتحدث مع الفلاحين فرأى أن يكمن له فى البستان الذى خلف القهوة حتى يخرج منها إلى الدرب . وهنا يرديه برصاصة مصوبة إلى القلب .

وجلس حسان فى البستان .. متلفعا ومتوثبا لغريمه .. وعيناه ترقبان فى حذر وتيقظ ..

ومرت لحظات رهيبة كان يسمع فيها صفير الريح .. وعواء أشبه بعواء الذئاب .. ثم صرخات مكتومة كأنها خارجة من الجحيم ..

وكان الليل يلف البستان فى شملته السوداء .. ومقابر القرية خلفه تبدو كأنها فاتحة أفواهها لكل نازل جديد .

وكانت أوراق الشجر تتطاير تحته كلما سفعتها الريح .. وأحس برعشة وهو جالس وحده .. وخلفه المقابر .. وجرى فى حسبانه .. ان عباس قد لاتصيبه أول رصاصة .. وهنا يستدير إليه .. وقد يقتله .. وظل هذا الخاطر يعذبه .

ولكنه استفاق منه .. وهو يتأمل سلاحه وكان من أحدث طراز من البنادق وعاوده الاطمئنان ولمح رجلا فى مثل قامة عباس يخرج من المقهى ويمشى فى الدرب .. فحدق فى الظلمة ويده على الزناد ولكنه تبين انه شخص آخر .. فتوارى خلف سياج البستان كما كان ..

ومرت دقائق من الانتظار الرهيب .. كانت قاسية وشديدة الوقع على نفسه .. واشتاق لأن يدخن سيجارة ومع أن العلبة كانت فى جيبه ولكنه خشى أن يدل ضوء السيجارة على مكمنه فظل فى مجلسه قلقا يمر بساعة الانتظار الرهيبة ..

***

وفجأة أحس برائحة النار من حوله فاستدار برأسه فرأى دخانا كثيفا يتصاعد فى الجو ويدخل فى الظلمة .. ثم سمع على أثره صراخا .. ورأى ألسنة اللهب .. تتصاعد من مدخل القرية . والدخان يتجمع ويتلوى فى أعمدة ثم تحمله الريح إلى ناحيته .. والنار تزداد اشتعالا كلما هبت الريح ..

وعندما وثب من مكانه .. وتطلع من مكان عال .. كان الجانب الشرقى من القرية يشتعل كله ..

اشتعلت البيوت والأكواخ الصغيرة والكبيرة .. واشتعل الدريس .. وسعف النخيل واشتعلت حتى صوامع الغلال .

وسحبت البهائم أوتادها وطارت بها وفزعت الكلاب .. وجرت الطيور على وجوهها مذعورة وهى ترفرف بأجنحتها وتصوصو .

وكان الشرر يتطاير .. والدخان يحجب السماء ..

وجرى الرجال والنساء وحتى الأولاد الصغار فى كل اتجاه يحملون القدور والبلاليص والدلاء ليكافحوا بها النيران ..

وتجمعت جموع الناس تحت الوهج المشتعل ..

ووقف حسان بعيدا خلف الجموع والبندقية لا تزال فى يده يرقب اللهب..

ثم رأى شيئا جعله ينتفض .. فقد رأى المرأة التى سقته الماء منذ ساعة واقفة على الجسر .. تصرخ وقد شقت ثوبها .. وكان بيتها قد اشتعلت فيه النار وفى داخل البيت غلامها الصغير الذى رآه حسان .. ولا أحد يستطيع أن يجتاز حلقة النار .. ويدخل وسط اللهب لينقذه ..

وكان صراخ المرأة يفطر الأفئدة ..

ورأى حسان رجلا يندفع فى وسط اللهب .. وخيم السكون ووجفت القلوب .. وحدقت العيون ..

***

وخرج الرجل من قلب النار حاملا الطفل على صدره .. وعرفه حسان .. أنه عباس الذى يطارده .. وبكت الأم من الفرح وتناولت طفلها ..

***

ووقف حسان فى مكانه يتأمل المنظر لحظات ثم وجد نفسه يحرك أكرة البندقية ويخرج منها مشط الرصاص ..

وكانت النيران مازالت تأكل بعض الجريد والدريس .. ولكن ثورتها قد خمدت تماما ..

ولم يعد فى مقدورها أن تأكل شيئا آخر .. كانت قد تحولت ثورتها إلى رماد ..
===============================
نشرت القصة فى صحيفة المساء 17/12/1961 وأعيد نشرها فى مجموعة ليلة فى الطريق لمحمود البدوى سنة 1962
================================

سوق السبت ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى


سوق السبت
قصة محمود البدوى

كان غطاس أحد تجار الأقمشة الذين يذهبون إلى سوق السبت فى قرية رافع .. وهى قرية صغيرة فى قلب الصعيد .. وكان أول من يدخل سوق القرية بحماره الرمادى الأشهب .. وأول من يجلس تحت المظلة الطويلة فى ساحة السوق .. وآخر من يبرح السوق من التجار ..

وما من قروى لم يعرف غطاس أو يتعامل معه .. أو يشترى منه « غزلية » أو ثوب دمور أو جلابية زفير .. وما من قروية لم تشتر منه طرحة أو منديل رأس .. أو جلد الفيل ..

ــ صباح الخير ..
ــ خير عليكى ..
ــ جايباها منين الجلابية دى ..
ــ من عند غطاس ..

وكان غطاس يتردد على سوق السبت منذ سنين .. وهو آمن مطمئن على بضاعته وماله .. لأن القرية آمنة وعمدتها الشيخ مهران .. رجل قوى مرهوب الجانب ..

فما من حادثة قتل أو سطو أو سرقة وقعت فيها وهو عمدة ، وما من حادثة واحدة سجلها دفتر الأحوال فى المركز ..

وكان الفلاحون يذهبون بمواشيهم إلى الحقول ويعودون منها فى ظلام الليل فلا يعترضهم مخلوق .. ويكومون المحاصيل فى الأجران ويتركونها فى حراسة الغلمان .. ولا يجرؤ انسان على الاقتراب منها أو مد يده إليها فالجميع يعيشون فى أمان مطلق ..

وكان الشيخ مهران مع قوته وجبروته تقيا عادلا .. يأخذ من الأقوياء للضعفاء ، ويسوى الأمور بين الناس على أحسن وجه .. وكان الجميع يعتبرونه أبا كبيرا .. حتى قلت المنازعات والخصومات بين الفلاحين أمام القضاء ..

ولذلك روع الناس وذهلوا عندما وجد غطاس مقتولا ذات يوم وهو عائد من السوق ..

وكان الشيخ مهران فى ذلك الوقت مريضا مرضا خطيرا حتى يئس أهله من شفائه وصوتوا عليه فعلا ذات ليلة ..

ولذلك كتم وكيل العمدة عنه الحادث وهو يرتعش من مجرد تصوره ما سيحدث لو علم .

وعلم العمدة أخيرا بالحادث فثار ثورة عنيفة ..
وسأل الشيخ عبد الرازق وكيل العمدة ..
ــ هل عرفت القاتل .. ؟
ــ الولد عبد الموجود .. كان بايت فى المسطاح .. جنب الجسر .. ومر عليه غطاس ..
ــ عبد الموجود لا يجرؤ على قتل فرخة وأنا حى .. يا شيخ الخفر هات لى فطوم ..

وأسرع شيخ الخفر لاحضار فطوم ..

وكانت فطوم أرملة فى العقد السادس من العمر .. تسكن فى شرق البلد فى بيت على الجسر .. ولها ابن وحيد يدعى عليان .. وكان يعمل فى المزارع والنجوع البعيدة .. فى الغرب .. على العدوة الأخرى من النيل .. وكان فاسدا شريرا بدد فدانين تركهما له أبوه على « الغوازى » وفى المواخير فى المدينة ..

ولم تكن أمه فطوم تراه إلا قليلا .. لأنه كان يقضى الليل حيثما اتفق .. وكان مع الجراة الشديدة وحب المغامرة والتسلط ـ وهى الصفات التى ورثها عن أبيه ـ يخشى الشيخ مهران .. ولهذا هجر القرية ..

وكانت فطوم تملك على امتداد بيتها أربعة قراريط تزرعها بنفسها طماطم.. وبامية .. وملوخية .. وفجلا .. وبعض اللفت .. وتسقيها بسهولة من ماء الترعة .. وتعيش من ثمن هذا الخضار قانعة راضية .

وكان أهل القرية يرونها وهى ترفع وجهها إلى السماء ... داعية على ولدها العاق .. وكانت سافرة الوجه جسورة .. لم ينحن ظهرها بعد .. وقد اكتسبت من العمل المتصل فى حقلها الصغير صحة وقوة ..

***

دخلت فطوم على العمدة .. بعد أن وضعت بجانب الباب عصاها الطويلة من الجريد .. وكانت هذه العصا تلازمها دائما .. لأنها تحرس بها الخضار الذى تزرعه من الفروج .. والأوز والبط ..

وقالت وهى تحدق فى العمدة الراقد فى الفراش ..
ــ عوافى يا بو محمد ..
ــ عوافى .. يا فطوم .. لسه برضه قاعدة شديدة يا فطوم ..
ــ الصحة ليك يابو محمد ..
ــ فين عليان .. ؟
ــ ما عرفش يا حضرة العمدة .. لى شهرين ماشفته .. ولا وقع عليه نظرى.. قطيعه .. ربنا يفتكره برحمته .. ويأخذه .. قطيعه تقطعه ..
ــ الخفير اللى على البحر شافه معدى فى العشية ..
ــ أبدا .. يا حضرة العمدة .. أبدا .. واللّه ماجه .. وحياة الشيخ العريان.. وسيدى جلال ..
ــ طب روحى يا فطوم ..
ــ اللّه يخليك لينا .. ويشفيك .. ويوتق حزامك ..
وخرجت فطوم .. واجتازت ساحة الدوار .. ومشت متئدة الخطو رابطة الجاش .. من العرصة إلى الجسر وعصاها الطويلة فى يدها ..

***

ولم يصدق الشيخ مهران ما قالته فطوم .. وظل يبحث عن القاتل .. وبعد بضعة أيام وكان لا يزال مريضا فى فراشه .. سمع بكاء امرأة فى ساحة البيت .. فسأل عنها .. وعرف أنها نرجس زوجة غطاس .. جاءت لتشكو حالها .. وأمر بادخالها عليه .. فدخلت لابسة السواد وخلفها ثلاثة أطفال وعلى صدرها رضيع ..

وقالت وهى تبكى :
ــ جتلك بأولاد غطاس المساكين .. يا حضرة العمدة .. مين يوكلهم كلهم .. ودم أبوهم راح هدر .. ؟؟

ونظر الشيخ مهران إلى الأطفال اليتامى .. وتأثر وأخذ منه الحزن .. وقال لنرجس وهو يعطيها بعض النقود :
ــ خدى .. وروحى .. يا نرجس .. وانا عارف اللى علىّ ..
ــ دا كان بيجى السوق على حسك .. من عشرين سنة ما انسرقتش معزاية من بلدك ..
ــ روحى .. يا نرجس ..
ــ ربنا يبارك فيك .. ويشفيك ..

وخرجت نرجس تجر أطفالها ..

***

وبعد أيام قليلة عرف الشيخ مهران القاتل .. ولم يكن غير عليان الذى خطر بباله لأول وهلة .. وعرف الشيخ مهران أن عليان بعد أن قتل غطاس وسرق الثلاثين جنيها التى كانت معه فى جيبه .. ألقى كيس القماش فى النيل.. وذهب إلى صاحب له فى النجع ..

وظل الشيخ مهران وهو فى فراشه يتقصى أخبار عليان حتى علم ذات ليلة أنه عبر النيل فى غبش الظلام ومعه بندقيتة وذهب من شروق البلد إلى أمه.. فأرسل الخفراء ليطوقوا البيت ..

وقال لشيخ الخفر :
ــ عاوزه .. حى ..

وبعد قليل علم الشيخ مهران أن عليان أحس بالخفراء قبل محاصرة بيته .. وهرب كالثعلب ..

وخشى الشيخ مهران أن يفلت منه القاتل إلى الأبد .. فتحرك من الفراش وهو ينضح عرقا .. وتناول بندقيته وخرج من بيته .. ولما رآه خفير الدرك جرى وراءه ليرافقه ..

فقال له الشيخ مهران :
ــ خليك يا عباس .. وخذ بالك من النقطة .. وقل لشيخ الخفر أن رجع فاضى .. يطوق جنينة عبد الكريم .. يمكن الولد فيها ..

وسار الشيخ مهران على الجسر وحده .. وكانت مياه الفيضان تغمر الأرض كلها والظلام رهيبا .. وكان الرجل مع مرضه يمشى قويا وقد جمع حواسه كلها فى باصرته .. وكان قد لبس رداءًا خفيفا أسود .. وتلثم .. وتمنطق بحزام وضع فيه أكثر من مائة طلقة .. فإنه يعرف جيدا الرجل الذى يطارده ..

وكان يفكر فى الأرملة المسكينة نرجس وأطفالها .. والظلام الذى شملهم والبؤس الذى تردوا فيه .. والجوع الذى ينتظرهم دون جريرة أو ذنب جنوه فى الحياة ..

وكان يغلى غيظا لمجرد تصوره أن عليان هذا الشرير .. سيفلت منه دون أن ينال القصاص .. كان يريد أن يجتث الشر من جذوره .. وتحت تأثير هذا وهو مريض .. وسار وقد شعر بقوة خارقة تدفعه إلى التقدم .

وبعد ساعتين عثر على عليان فى ماكينة رى .. وأدرك الشيخ مهران بعد الرصاصات الأولى التى أطلقاها .. أن المجرم منبطح على سطح الماكينة ويحتمى بصهريج المياه والاقتراب منه فى هذه الحالة انتحار مؤكد .. فدار يتلصص ويخوض فى القنوات .. حتى تسلق مرتفعا يشرف على بناء الماكينة .. وأطلق الرصاص .. وتصارع الرجلان صراع الجبابرة ..

وأدرك عليان من أول رصاصة أطلقت أنها ليست بندقية شيخ الخفراء ولا بندقية خفير .. وأن الذى أمامه رجلا آخر .. رجلا كان يخشاه أكثر من الموت .. ويتصور أنه لن يترك الفراش أبدا .. وأنه راقد هناك .. ولكنه تحرك وجاء ليطارده .. وصوت بندقيته يدوى وقد خرج إليه وحده .. وليس معه خفير واحد .. لا ليقبض عليه وانما ليفعل شيئا آخر ..

وثار عليان وأطلق الرصاص فى جنون .. ولكن الشيخ مهران أسكته إلى الأبد .. فخر فى معجنة للطوب صريعا ..

***

ورجع الشيخ مهران يمشى على الجسر وحده وقد سكن الليل وعاد السكون يلف كل شىء ..

وخرجت القرية كلها على صوت الرصاص تستطلع الخبر .. وعلموا أن العمدة المريض .. خرج وحده فى الليل .. وقتل عليان ..

وسار الشيخ مهران على الجسر .. وخلفه الفلاحون يباركونه .. وقبل أن يدخل مدخل القرية صوبت إليه رصاصة .. وسقط ..

***

ورأى الناس فطوم .. واقفة على سطح بيتها وبيدها بندقية .. وكانت منتصبة القامة .. شامخة الأنف .. وكان منظرها وهى واقفة يلقى الرعب فيمن حولها .. فلم يجرؤ انسان على الاقتراب منها ..

===============================
نشرت القصة فى مجلة الثورة 9/9/1954 وبمجوعة قصص لمحمود البدوى " العذراء والليل " وأعيد
نشرها فى مجموعة " قصص من الصعيد " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002
================================

الاثنين، ٢٠ نوفمبر ٢٠٠٦

صوت الدم ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى




نشرت القصة فى عام 1941 فى مجموعة قصص " فندق الدانوب " لمحمود البدوى

صوت الدّم
قصة محمود البدوى


كانت الطريق بين مزرعة صالح وقرية « ك » طويلة وموحشة ، وكان بعض الفلاحين العائدين من المزرعة بعد الغروب يتحاشونها ويسيرون فى طرق كثيرة بين المزارع .

على أن الذين كانوا يتروحون بدوابهم ، وهم غالبية الفلاحين ، كانوا يضطرون مجبرين إلىّ اتخاذ الطريق البعيدة لأن أرجل الدواب تفسد الزرع والنبت ، كانوا يمشون فى سكة معبدة بين الحقول ، حتى يبلغوا ترعة الجرف ، فينحدرون إلى قاعها ، ويصعدون منها مستوين على جسر القرية ، ويدورون مع الجسر العتيق البالى حيثما دار ، مجتازين بساتين النخيل والأعناب ، وأشجار السنط حتى يدخلوا القرية مع العشى ، وهم لاهثون مكدودون .. من ثقل البرسيم على ظهورهم ، ومن فرط ما يلاقونه من إعنات البهائم النافرة التى تظل طول الطريق تضرب بحوافرها الأرض وتقطع الجسر فى خطوط حلزونية وهى تخور وتصهل وتهدر فى مرح ونشاط ، لأنها شبعت من خير الأرض ، وشربت من ماء النيل ، واستدفأت بحرارة الشمس ، وقضت النهار كله فى جو بهيج طلق .

وكان الفلاحون الذين يسوقون الدواب من الحقول من فتيان القرية الأشداء الذين ألفوا سير الليل فى الليالى الظلماء ، ومع هذا فقد كان عمدة القرية يهون عليهم وحشة الطريق بإخراج خفيرين من أحسن الخفراء يتطلعان ويعسان على الجسر ، وبعض الأحيان يواصلان السير حتى المزرعة .

وكان من بين الفلاحين الذين يتخذون طريق المزرعة الطويلة الكثير من الغلمان . وكان هؤلاء أسبق أهل المزرعة إلى الرواح . كانوا يبدأون فى حش البرسيم عندما تميل الشمس نحو الأفق ، وتقرب من قرن الجبل ، وترسل أشعتها الصفراء على الحقول ، ويكومونه خارج الحقل ، ثم يضمونه فى حزم صغيرة يربطونها بسيقان الزرع اللين ، ويحلون الدواب من أوتادها ؛ ويضعون على ظهورها الخيش الثقيل ليقيها برد الشتاء ، ويوثقون أفواه البهائم النافرة بكمامات من الليف المحكم الفتل ، ويحملون ظهور الحمير والجمال بالبرسيم، ويرسلونها فى الطريق وهم وراءها يحثونها بالعصى ، ويغنون على وقع حوافرها الغناء الريفى الحزين .. كانت أصواتهم الحلوة ترن فى سكون الغسق ، وتدوى فى جوف الليل ، فيهتز لها الزرع ، ويغنى الطير ، وتنحنى لها أعناق الأبل وتسكن البهائم الهائجة ، ويحمل الهواء الرخى صداها إلى القرية، فترقص لها قلوب الأمهات طربا ، ويرحن يهيئن العشاء من العصيد والفت لأفلاذ أكبادهن القافلين من المزرعة .

وكان الفتيان وهم يدخلون القرية مع العشى لا يحسون ، مع طول الطريق، بتعب ولا نصب ، ولا يشكون من سوء الحال ، ولا يعرفون المصير . كانوا يقطعون الطريق ضاحكين صاخبين ، كانوا دائما يضحكون للزمن ويبتسمون للحياة ؛ ويقضون النهار فى الحقل يلعبون « الطرطقة » والكرة الليف ، ويأكلون الخبز الأسود بالحلبة والجبن ويشربون من لبن الضأن ، ويشعلون فى بكائر الصباح النيران فى أطراف الحقل ، ويجلسون حولها يتحدثون ويتندرون ويفيضون بأعذب الأقاصيص والسير ، ويذكرون لياليهم المقمرة الممتعة ، والزمن رخى ، ووجه الحياة بسام .

وإذا بلغ الفتيان القرية ، وقربوا من شجر السنط القائم فى شماليها انحرف الساكنون منهم فى شرق البلد عن الجسر ، وواصل الذين يقيمون فى أقصى القرية وغربيها سيرهم فى الطريق ، ثم تفرقوا طرائق على رأس الدروب ، وعصيهم تعمل بحمية ونشاط على ظهور الحيوانات الثاغية الراغبة .

وكانت القرية تظل النهار طوله فى صمت ووحشة وسكون ؛ حتى تغرب الشمس ، ويهل عليها الغلمان من الحقول ، فتعود إلى حياتها ونشاطها ومرحها ، فلا تسمع إلا صهيل الجياد وخوار الأبقار ، وهدير الإبل ونباح الكلاب ، وصوت العصى على الدواب الهائجة لتستكين فى مرابطها ، وتستنيم إلى الحظائر الضيقة بعد الحرية المطلقة فى الخلاء .. وبعد صلاة العشاء ، تحلب البهائم ، وتعود القرية إلى سكونها وصمتها .

وقل ما كان يتأخر الفتيان فى المزرعة إلى ما بعد الغروب إلا فى الليالى التى يبكرون فى صباحها إلى المدينة بائعين البرسيم ، ومع هذا فما كانوا يشعرون وهم راجعون فى الطريق بخوف ولا رعب ، ولا يرهبون شيئا من عوادى الليل ، لأن القرية مع وقوعها فى صميم الصعيد ، وبجوار قرى تكثر فيها جرائم القتل والنهب ، آمنة مطمئنة وأهلها وادعون مسالمون .

تأخر الفتى نعمان فى ليلة من الليالى فى المزرعة ، لأنه اشتغل وحده بحش ثلاثة أحمال من البرسيم للسوق ..

وكان غلاما فى السابعة عشرة من عمره ، أسمر فى حمرة حديد البصر مديد القامة ، محبوبا من رفاقه ولداته .. وهو وحيد أبويه ..

رجع نعمان وحده فى سكون الليل إلى القرية ، وتحته أتان مهزولة ؛ وأمامه دابتان قويتان .. بقرة حمراء ، وجاموسة سوداء فتية من خيار الجاموس ، مشهورة فى القرية بلبنها وسمنها ، وما تدره على أصحابها من خير عميم ، وكانت مع طيب عنصرها جافلة نافرة ، فأخذ الغلام رأسها وشد عليه .. وحمل أتانه بالبرسيم ، وساق البقرة أمامه ..

ومشى فى غلس الليل وحده شاعرا بالسكون العميق والظلام الشديد .

ولم يكن من عادة نعمان التخلف عن رفاقه فى المزرعة ، ولهذا شعر فى هذه الليلة ببعض الخوف والذعر ، وكان اليوم على خلاف الأيام غائما مقرورًا كثير السحب ضرير النجم ، خيم ظلامه قبل الأوان ، وضرب العشى بجرانه على الحقول والمزارع ..

وذاب الشفق الأحمر فى سواد فاحم سد عرض الأفق .. وهبت الرياح شديدة قوية فترنح لها الزرع ؛ وحف الشجر القائم على جوانب الطريق ، وكان أرهب ما يخشاه نعمان ، على الرغم من أنه الريفى القح ، مروره بالدواب فى فحمة الليل ووحشته على البساتين ..

فكان يتصور وراء كل نخلة من نخيل البستان لصًا قائما يترصد فكان يرتعد لهذا ويرتجف فوق الأتان ، ويقبض بيده على زمام الجاموسة ، ويحث البقرة على الإسراع فى صوت خافت جازع ..

واشتد الظلام وغرقت القرى فى لجته ، وأصبح نعمان لا يرى أبعد من مواضع حوافر الدواب ، وكان وهو يرفع نظره إلى الأفق ، ويرتد به إلى الحقول المجاورة ، يرى السنة نيران تشب ثم نحبو فى المزارع البعيدة .. وكان لومضها ولمعانها فى جوف الظلام ، منظر مرهوب ؛ ترتعد له الفرائص رعبًا ..

وكانت البقرة لا تسير على جانب واحد من الجسر ، وإنما أخذت تميل إلى اليمين مرة وإلى اليسار أخرى ، وترك نعمان حبلها على غاربها .. مد لها طرف الحبل كلما تياسرت وقربت من النيل .. وأخذ يرقب قلوع المراكب البيضاء ، وهى لبياضها فى سواد وما هنالك نور يتألق ، ثم يسمع بين الفينة والفينة مجاديف الصيادين وهى تجزر بزوارقها عن الشط ..

وسمع نباح كلاب شديد على العدوة الأخرى من النيل ، بدأ فجأة ، واستمر دقائق كاملة ، ثم خيم سكون الرمس ، وبقيت حوافر الدواب وأظلافها تضرب الأرض بقوة وعنف .

وأشرف نعمان على بستان « عمر » وهو نخيل وسنط وأعناب ولبخ يمتد من حافة الجسر ويغوص فى قلب الحقول ، وكان من أكبر بساتين القرية وأغناها بالثمر وأشدها مع ذلك وحشة . لأنه يترك معظم العام من غير حراس ؛ ولا يخفره زمن الأعناب والتمر ، إلا شيخ طاعن من الفلاحين ..

وأطلت على نعمان فروع النخيل ، وهى تميل مع هبات الرياح وكأنها فى عراك دائم مع أشباح الليل .. فوجف قلبه فرقا ، واندفع الدم إلى رأسه ، ولم يستطع رغم رباطة جأشه أن ينزع عن ذهنه المخاوف المفزعة التى ساورته ، وكان خوفه على الدواب أضعاف خوفه على نفسه بل لم يكن خوفه على حياته يستقر فى بؤرة شعوره إلا إذا تصور القتل على أبشع صوره .. الطعن بالسكاكين والتمثيل بالجسم ، وتمزيقه شر ممزق ثم رميه كأحقر أنواع الكلاب فى النيل ..

وصمت كل شىء حوله ، وبدأ الليل فى هوله مفزعا مرهوبا ، وغاصت الحقول والمزارع فى لجج الليل ، وانقطعت ألسنة النيران البعيدة ، وزادت الثورات النفسية تأججا مشوبة بأقصى ضروب المخاوف ..
وتياسرت البقرة على عادتها لما حاذت سور البستان ، ولعلها كانت تخاف رهبته كذلك ومالت إلى النور الضئيل المنبعث من النيل ..

وخيل لنعمان أنه يرى نور سيجارة تومض فى البستان ... ثم سمع صوت انسان ، وزحف أرجل حذرة ، وتقلب بطن كبطون الثعابين .. وتحركت بعده أوراق الشجر وتمايلت الفروع .. على أن هبوب الريح فى تلك الآونة بشدة طردت من رأس نعمان فكرة وجود الإنسان اطلاقا ، وبقى مع هذا خائفا يتوجس ، حتى خلصت أرجل الدواب من سور البستان .. فتنفس الصعداء ، وأصلح حمل البرسيم المعلق على جانبى الاتان ؛ واعتدل على ظهرها وتهيأ للسير السريع ..

وكان مستغرقا فى خواطر لا علاقة لها برهبة المكان مطلقا .. وانحنى الجسر فجأة انحناء شديدًا ، وتمهلت معه الدواب ، وأطل نعمان على جوف الترعة بجانبه ، وكانت قد عمقت وغابت فى أعماق الأرض حتى بدت كالمغاور السحيقة التى يضل فيها انسان العين ..

وتلفت مذعورا على صوت أقدام سريعة دوت فجأة .. وأخذته على غرة ضربة نبوت قوية من أشد السواعد وأقواها ، حطت على صدغه ، وانقلب بعدها عن ظهر الدابة يهوى من حافة الجسر إلى بطن الترعة كالحجر الساقط من قرن الجبل ، مقلبًا ظهر البطن ، حتى استقر فى قاع الترعة فاقد الحراك ..

وجفلت الجاموسة النافرة ، وانطلقت تسابق الريح إلى القرية .. وانطلقت على أثرها رصاصة طاشت عنها ، تبعتها أختها أسد وأحكم ، فأصابت فخذها الأيمن ، ونفذت منه ، وخرجت تئز وتدمدم فى الجو .. وتقطر الدم من فخذ الجاموسة على الجسر وزادتها الرصاصة هياجا وذعرا .

وقامت على صوت الرصاص الكلاب فى المزارع ، وخف على صياح الجاموسة ونواحها الخفراء والأهالى من القرية ، وخرجوا متفرقين فى المزارع كأشباح الليل الهائجة .

***

انقطع عبد الحق والد نعمان عن صلاة الفجر فى مسجد القرية واحتبس فى منزله أياما طوالا .

ولم يكن مع الذين واروا ابنه فى التراب على الرغم من أنه دفن فى ظلام الليل ، كما أنه لم يتلق تعزية واحدة من انسان ، على عادة أهل الصعيد فى أمثال هذه الأحوال ..

وكانت أشق الأشياء على نفسه أن يجر بعد الحادث إلى بيت العمدة ليدلى بمعلوماته إلى المحقق ، وكانت أجوبته على أسئلة هذا موجزة مقتضبة خالية من دلائل الاتهام ، وإن كان ذهنه قد ابتدأ يحصر الجريمة فى أشخاص معينين بالذات ..

فقد ذكر شجارا حدث بينه وبين بعض جيرانه فى الحقل كاد يجر إلى أوخم العواقب ، لولا أن مشى بينهما بعض الناس ، وذكر نزاعا بينه وبين بعض المالكين عند ضم المحصول ، استعملت فيه الهروات ، كما ذكر أن الغلام نفسه تشاحن مع رفقائه أكثر من مرة ، وكان آخر المشاحنات غالبا التهديد والوعيد .

على أن القتل لم يكن للقتل بل كان للسرقة ، قتل الغلام الأعزل لأن اللصوص استضعفوه فى ظلام الليل وارادوا سلبه مواشيه وقد فعلوا ..

أخذت هذه الخواطر المروعة تطوف فى ذهن الأب وصورة الجريمة على بشاعتها ماثلة أمام ذهنه .. ولم يستطع ، رغم أيمانه المطلق بعدل الله ويقينه الجازم برحمة ربه ، أن يتعزى ويتأسى ..

فلقد فقد بهجته فى الحياة ، ومتعته فى هذا الوجود .. حشاشة نفسه .. ولده الوحيد القائم على زراعته ، الحارس لدوابه ، الجانى لمحصوله ، ولده النافع .. ولم يستطع وهو الرجل الحديد الأعصاب ، الشديد الأيد ، القوى القلب ، أن يأخذ بزمام نفسه ويضبط جأشه ، بل كان دمه تحت تأثير الصورة البشعة التى مات عليها ابنه يغلى فى عروقه ، ويمزق أعصابه ، ويطير لبه ..

وكان الحادث مع وقوع مئات الحوادث من أمثاله فى الريف حديث أهل القرية جميعا ، وكان المغرمون منهم بتصيد الأخبار والإضافة إليها من صناعة وجدانهم يزيدون فى وصف الحادث زياده عظيمة ..

وأخذ شيوخ القرية والراسخون منهم فى الإجرام يسترقون السمع ويمدون البصر علهم يهتدون إلى الفاعل ، ولقد كان نعمان أحسن لهم من فلذات أكبادهم وأطوع لهم من أرحامهم .. وخطا بعضهم بعد جهود متواصلة خطوات موفقة وكاد أن يزيح القناع عن وجه الجريمة .. لولا أن عارضا تافهًا اعترض فى ذلك الحين فضيع هذه الجهود سدى .

***

أخذ عبد الحق على مر الأيام يستبشر بالصبر وينزل على حكم القدر فعاد إلى عمله فى المزرعة بنشاط وعزم ، وأضاف على زراعته فدانين من ضعاف الأرض أخذ على نفسه اصلاحهما وتسميدهما ، وكان موسم الزراعة قد حل فى جزيرة القرية وهى على العدوة الأخرى من النيل ، فبكر مع المبكرين فى الذهاب إليها .. بيد أنه كان يتخير فى غدوه ورواحه أوقاتا تختلف عن أوقات الفلاحين .

وكانت أشد الأشياء وقعا على نفسه وأشدها ايلاما لقلبه ، منظر زوجه فى البيت .. فقد انقلب كيان الأم بعد أن مات عنها وحيدها ..

فذبل جسمها وجف ماء شبابها واصفر لونها ، وتخدد وجهها وبرزت محاجر عينيها .. وكانت المسكينة تنزوى سحابة النهار وطول الليل فى ركن مظلم من البيت ، لا تحادث أحدا ، ولا تخاطب زوجها .. وكان هذا يرى فى بريق عينيها كلما واجهته تعبيرا ناطقًا عما فى نفسها ، وتعنيفًا مؤلما على موقفه كرجل .. على أن الرجل لم يكن مقصرًا قط ..

فعلى الرغم من مرور أكثر من أربعة أشهر على هذا الحادث المروع فإنه كان لا ينفك يبحث ويتسقط الأخبار ، ويجمع ما يطير من أفواه الناس ، حتى أعياه الأمر وأضناه ، ففتر عن البحث وترك الأمر للأيام وهى وحدها الكفيلة بإظهار الجانى ..

فليست حوادث القتل من الحوادث التى يمكن أن تضيع معالمها ويختفى أمرها عن الناس جملة مهما كان القاتل أو السارق من الحذروالحيطة وبعد النظر ، وبراعة الذهن والتفنن فى ضروب الاجرام .. وقد يحدث عرضا حادث تافه ، أو يجرى حديث بسيط أو يقع أمر حقير .. فيزاح ستر الجريمة ويظهر أمرها للناس ..

والقرويون بطبيعتهم فيهم الصبر وعندهم الأناة .. فما يتسرعون ولا يركبون متن الشطط ، ولا يسددون السهم إلى غير قلبه .. ولا يصوبون إلا إذا أبصروا هدفا ، وتراهم فى كثير من الأحايين يدعون القاتل يمرح ويلهو حتى ينسى نفسه ؛ وهم فى الوقت عينه يضيقون عليه الدائرة وينصبون حوله الشباك حتى يقع فى الفخ .

***

عاد عبد الحق فى ليلة من الليالى من جزيرة القرية متأخرًا على خلاف عادته .. فلم يجد معدية القرية فى مرساها وانتظرها حتى عيل صبره .. فأخذ يتمشى على شاطىء النيل عله يجد زورقا من زوارق الصيادين ينقله إلى القرية .. وكانت الليلة ظلماء ساكنة الريح موحشة الصمت فتثاقل فى سيره وأرهف حسه .. حتى سمع صوت مجاديف خفيفة فمد قامته وسدد بصره فى حجب الظلام فبصر بسواد يتهادى نحو الشط فلبث قليلا ثم هتف بمن فى الزورق ، فألفاه يجزر عن الشط بعد أن كان يقترب منه ، وهى حركة طبيعية مألوفة من الصيادين .. الصيادين من سكان المدينة على الأخص ، فهم يرهبون الريفيين ويتقون بأسهم ويتحاشون وجودهم ، ويتصورون أنهم بالإجماع لصوص فاتكون ما يخرجون فى رهبة الليل إلا لتصيد الناس .. وما أسهل من أن يغير فاتك قروى على زورق من زوارق هؤلاء الضعفاء المساكين، فيسلبه سمكه وماله ، ثم يلقى بمن فيه فى النيل .. !

وابتسم عبد الحق لما رأى الزورق ينقلب على عقبيه ، ويرتد عن الشط .. ثم سار فى طريقه بعد أن صب اللعنات على من فيه ..

واتجه نحو السد حتى غابت عنه القرية ، وانقطع عنه نباح كلابها .. وكان قد قرر الرواح حتى ولو بلغ السد .. ودار كل هذه الأميال ، لأن تخلفه عن بيته سيبعث الوساوس والشكوك فى نفس زوجته الثكلى ، وربما طير صوابها ..

وسمع على بعد صوتا يشبه صوت أقدام تتخبط فى الماء .. فدلف نحو الصوت حتى اقترب منه.. فوجد صيادا يجر زورقا صغيرا ويغالب به التيار الشديد فسر لمرآه ورأى أن يتسلل خفية ، حابسًا صوت أقدامه ، حتى يقترب منه .. فأخذ يتلصص فى مشيته حتى كان بجانب الرجل ، وبادره بالتحية فرد الصياد ، وفى صوته الرهبة ، وعلى ملامح وجهه الجزع ..

فأخذ عبد الحق يحادثه حتى سكن طائره ، واطمأن قلبه ، ثم رجاه أن يعبر به النيل فقبل ، وأخذ يطوى الحبل وفى حركة يديه دلائل التذمر .

وانطلق بهما الزورق وكان الصياد على عكس الصيادين ـ وهم يلزمون دائما جانب الصمت حتى لا تخيب شباكهم ـ ثرثارا كثير الخلط فى الكلام ..

فأخذ يقص على عبد الحق طرفا من سيره ونوادره ، وحوادثه مع القرويين الذين يتأخرون فى الحقول .. ويطلبون الرواح بعد نصف الليل ، وبطونهم خاوية .. !

واستمر فى ثرثرته الفارغة حتى بلغا منتصف النيل ، وهنا انطلقت رصاصة فى الجو ، وهى تدمدم .. وأزيزها عند آذانهم .

فقال الصياد وهو يشد على مجاديفه :
ـ دائما الرصاص فى القرى .. دائما الرصاص فى الليل .. لو كنت واقفا لقتلت ..

فقال عبد الحق وقد نبشت الرصاصة دفائن شجنه :
ـ عمرك طويل ... !

فقال الصياد ضاحكا ، وقد سره أن وجد ما يسل لسان صاحبه بعد طول احتباس وطول صمت :
ـ أجل .. فعمرى طويل حقا .. لقد مرت رصاصة ذات مرة هنا عند شحمة أذنى .. فأخذت أذنى تطن ساعة .. وكان ابن اللعينة « علام » جالسا فى المؤخرة يضحك .. أجل واللّه كان يضحك والرصاص يصافخ رأسى .. وهو رابض كالليث لا يغير جلسته ولا تغيب الابتسامة عن وجهه .. وكانت عيناه تلمعان كعينى صقر يريد أن ينقض على فريسته ..

وصمت الصياد قليلا ليصلح مجاديفه ثم استطرد :
ـ وجدنى الملعون على الشاطئ .. فقال بلهجة الآمر وفوهة بندقيته عند أنفى .. هيا اعبر بى النيل مسرعا .. هيا .. وكان الشرر يتطاير من عينيه .. ثم سمعت على إثر ذلك الرصاص يدمدم .. فأدركت أنه مطارد فحركت المجاديف وأنا أنتفض من الذعر .. وكان يقول بصوت أجش .. أسرع ولا تتحدث .. وإلا فأنت تعرف مصيرك .. وبالطبع أنا أعرف مصيرى هناك عند سفح الجبل ! .. ولهذا لم أتحدث بما جرى لأحد ولن أتحدث ... !

وانطلق الرجل فى ثرثرته وصاحبه لاه عنه بما يدور فى رأسه من خواطر حتى اقتربا من الشاطىء .. وهنا لمح عبد الحق سوادا يتحرك على بعد .. ثم ومض سيجارة .. فلما كان الزورق على مسافة أمتار من الشاطئ ظهر رجل ضخم الهامة ، بادى الطول ، قد عصب رأسه وأسفل ذقنه بعجار أسمر ، وغطى بندقيته وألواح كتفيه بملحفة لا لون لها .. وكان يتمشى وهو يدخن ، فلما اقترب منه الزورق ، قال موجها كلامه إلى الصائد ، وكان صوته خشنا مرهوبا ؛ كأنه يتردد قبل خروجه من حنجرته فى أعماق بئر ما لها من قرار :
ـ أحمد ..
فأجاب الصائد :
ـ نعم يا علام .. مساء الخير .. من أين .. !
ـ من القرية طبعا .. !
ـ وما الذى تريده فى هذه الساعة من الليل يا أخى .. ؟
ـ أريد الرواح .. هل تتصور أنى سأبات هنا ..
ـ لا طبعا ..
ـ من معك .. ؟
ـ رجل طيب من القرية عم ..

فأتمم عبد الحق كلام الصائد :
ـ عبد الحق ..

فصمت الرجل ولم يقل بعد ذلك شيئا ، ووقف يدخن .. وكان الزورق قد بلغ الشاطئ ، فنزل منه عبد الحق ، وواجه الرجل .. ورأى فى بريق عينيه وملامح وجهه الساكنة الصارمة .. ما ألهب خواطره ولما اقترب عبد الحق منه ضاقت عينا الرجل قليلا ، وتقلصت شفته السفلى بعض الشىء ، وانفرجت أسنانه ، فعل من يهم بالكلام ، ولكنه تراجع وتماسك ، لسانح فى ذهنه ، فابتسم ابتسامة نكراء ..

ومر عليه عبد الحق دون أن يحييه .. ولما نزل الرجل فى الزورق ، وقف يرقبه على بعد حتى غاب عن بصره ، واحتواه النيل .

***

كان الشتاء قد حل والقصب قد نضج واستوى عوده وسمقت فروعه .. وكان عبد الحق فى طريقه إلى القرية ، وقد ترك المعدية ، واتخذ لنفسه طريقا وسطا بين مزارع القصب الكثيرة التى لا يأخذها الطرف كانت آلاف مؤلفة من الأفدنة لثراة أهل البلد وعيونها وهى خير محصول وأجنى ثمر ..

وكان الرجل يمضى فى الطريق وحيدا وهو يشخص ببصره من حين إلى حين إلى النيران البعيدة المشتعلة فى أقصى المزارع ، وكان الليل فى هزيعة الثانى والرياح عاصفة ، والبرد شديد قارس ، وحملت الريح إلى عبد الحق صوت كلاب أخذت تنبح بشدة ، ثم خفت صوتها تدريجيًا ، ثم حمى الصوت واشتد مرة أخرى ، وانقطع بعدها فجأة ..

فوقف فى مكانه ورمى بصره فيما حواليه ، وقد ساورته خواطر الريفى الذى يعرف لهذا النباح المفاجئ فى جوف الليل سببا .. ولم تكذبه فراسته .. فقد أهلت عليه من أقصى الطريق ماشية تساق سراعا ، ما لبث أن تجنب بها سائقوها الطريق المألوف ، وتياسروا بها إلى بطن واد قريب يتجه إلى النيل ..

فوقف عبد الحق هنيهة ، وبصره مستقر على الدواب ثم انخرط فى إثرها بعد أن خاف أن يغيب عن نظره .. وسار فى بطن الوادى ثم كمن فى بعض المغاور التى يحفرها الفلاحون لشواديفهم ، ورقب بعينى نسر .. وبعد لحظات مرت الماشية أمامه.. وكانت كلها أبقار من بينها ثور ضخم هائج ، قد من أنفه ، وأخذ من قرنيه ، وكان على الرغم من الضرب الشديد النازل على ظهره وجنبيه ، لا يغير خطوته ، ولا يحرك جلده ، وانما أخذ يدفع رأسه إلى فوق ، ويرمى ضاربه بنظرات ينخلع لها قلب الشجاع ، وكانت الأبقار كلما تحولت عن طريق الثور وحادت عنه ، ترد على أعقابها لتكون وراءه دائما ..

وتصور عبد الحق أنه يرى بقرته فى هذا القطيع ، رأى بقرة تشابه بقرته ، ولكنها لم تكن غراء مثلها .. نظر إلى هذه البقرة وأمعن فيها البصر وقلبه يزداد وجيبه ، والذكريات المرة تنهش رأسه ..

ثم انقلب بصره عنها واستقر على شىء آخر.. على الرجال الثلاثة الذين كانوا يسرقون الدواب ، وعلى واحد منهم على التعيين ، وكان يمشى فى المؤخرة بعد الماشية بخطوات ويتطلع من حين إلى آخر إلى الخلف .. تذكر أنه رأى هذا الرجل بقامته الفارعة ولفتاته ونظراته الحاده .. كان هو علام بعينه الذى حدثه عنه الصياد ، والذى التقى به عرضًا فى تلك الليلة التى تأخر فيها فى الجزيرة كان علام فى هذه الليلة صارم الملامح .. ولكنه كان خفيف اللفتة قلق النظر ، يتأهب للحوادث ..

ولما قربت الماشية من النيل ، رأى عبد الحق مركبا راسية طاوية قلوعها ، ما لبث أن خرج منها نوتيان عرف أحدهما ، كان هو صاحبه الصياد بعينه..! فنظر عبد الحق إلى هذا الرجل ومرت على شفتيه ابتسامة .. ونزلت الماشية فى المركب دون أن يتبادل الرجال الخمسة كلمة واحدة .. وحدث أن سقطت رجل بقرة من الأبقار بين دسر المركب فتركت كما هى ..

وسارت المركب صوب الجزيرة ، وعاد عبد الحق إلى القرية ..

***

وصل إلى سمع عبد الحق ، بعد ذلك الحادث بأيام ، همس يدور على أفواه الناس .. ذلك أن هذه الحيوانات سرقت فى فحمة الليل ، ثم حبست شهورا فى بعض البساتين ، لا تخرج لمرعى ولا تساق لمسقى .. حتى هدأت عنها الألسنة وغفلت العيون .. وهنا سربت على هذه الصورة فى سواد الليل ورحلت مع قطعان كبيرة إلى جهة نائية .. وعلم أيضا أن بقرة واتانا حبسا فى هذا البستان بعينه .. ثم أخذا فى فجر يوم ولا يعلم أحد إلى أين ذهب بهما.. وإن كان يحتمل ـ لأن السرقة صحبتها جريمة قتل ـ إن البقرة ذبحت .. أما الأتان فألقيت فى النيل ، وكان علام هو الذى سرب الدابتين ..

وعلى ضوء هذا واصل عبد الحق جهوده فعلم بعد بحث مضن استغرق أياما أن اللصوص كانوا فى تلك الليلة الشنعاء سبعة .. وكانوا يقصدون مزرعة لبعض الثراة .. ثم فلتت من أيديهم الفرصة ، بعد أن علموا فى اللحظة الأخيرة أن الخفراء ساهرون وعلى أتم استعداد .. والتقوا وهم مرتدون خائبون بنعمان عن عرض فوجدها علام فرصة ذهبية سانحة .. وحرض رفاقه.. فرفض منهم عربيان أصيلان أن يسرقا غلاما أعزل ، على صورة دنيئة لا يرتكبها إلا الجبناء .. ووافق على نهبه الباقون .. وكمن له علام وأخذه على غرة ..

وعرف عبد الحق بعد ذلك الشىء الكثير عن علام هذا .. وهو أنه مجرم يسكن عزبة .. «ج» .. ويعيش على السرقة والنهب .. فيترصد التجار العائدين من الأسواق ويسلبهم ما لهم ومتاعهم ، ويفر بغنيمته فى الحقول فرار الثعلب ..

وهو مع لصوصيته ، لا يغفل نداء قلبه ، وحاجة جسمه ، فهو يتردد على أرمل من جميلات القرية مات عنها زوجها منذ سنين ، وخلفها وحيده الأهل .. وهى مع جمالها سيئة الخلق عصبية المزاج حادة الطبع .. وكانت فى صباها مطمع أنظار الشبان من الأعيان ثم كبرت وترهل جسمها نوعا ، على ممر الليالى ، فتركها هؤلاء .. وانحط مستواها بعدهم وأصبح لها ولع غريب بالفتيان الأشداء الذين دون العشرين ، وكانت تغريهم وتستحوذ عليهم بكل الوسائل ..

وكان يساعدها على هذه الحياة الماجنة بيتها القائم فى طرف القرية منعزلا عن سائر البيوت ، وحوله بساتين كبيرة من النخيل والأعناب ..

وكانت مع حياتها الماجنة هذه تتحدث دائما عن سمعتها وشرفها، وتكثر من الترحم على زوجها .. المرحوم !

وكان علام يتردد على هذه المرأة فى بعض الليالى المظلمة ، ويرجع إلى عزبته عندما يرسل الفجر أول بصيص من النور ..

***

كانت المعدية الأخيرة ، والنقلة الأخيرة ، من غرب النيل إلى شرقه وكانت غاصة بالفلاحين العائدين من المزارع ، والقافلين من السوق ، والراجعين من المدينة .. كانوا يتحدثون عما شاهدوه فى المدينة وما ابتاعوه من السوق ، وقد نشروا على عواتقهم شيلانهم الزاهية ، وملاحفهم الحمراء الجديدة .. كانوا مبتهجين فرحين ، تطوف فى رؤوسهم ذكريات الصور الجميلة التى مرت عليهم ، وأخذت بألبابهم ..

وكانوا يديرون رؤوسهم من حين إلى حين إلى مؤخرة المركب ، حيث يجلس نفر من أبناء الأثرياء الراجعين من المدرسة ، والعائشين فى المدينة ، كانوا عندهم صورة حلوة للعيش الرغد ، والتمرغ فى النعيم ، والتمتع بمباهج الحياة وملذاتها دون أن يضربوا فأسًا أو يبذلوا جهدا.. كل جهودهم تنحصر فى تقليب صفحات كتاب .. ! وهل فى هذا جهد .. هل جهود سكان المدينة جميعا من هذا الطراز .. إذن ما أحلى العيش فى المدينة ..

كانوا ينظرون إلى هؤلاء الطلاب نظرة إكبار وإجلال ، وهم خير مثال يحتذى ؛ وخير آمر يطاع ، كانوا ينصتون إلى كل كلمة تخرج من أفواههم ، وكل حديث يدور بينهم لعلهم يهتدون إلى نور العلم ، ويخرجون من الظلمات ..

وكان النسوة الجالسات فى ركن منعزل من السفينة يتطلعن إلى هؤلاء الطلاب ، ويملن على بعضهن هامسات باسمات ، وخدودهن الوردية تفيض بماء الحياء ، وعيونهن الناعسة تلمع ببريق أخاذ ..

وكان عبد الحق وعلام من ركاب هذه السفينة أيضًا بيد أنهما لم يكونا متجاورين .. كان كل منهما يحادث رفاقه .

أما صاحب السفينة وقائدها فقد أسند جنبه الأيمن إلى مقبض الدفة ، وطفق يتطلع إلى السماء ويرقب القلع .. ثم عالج أخيرا حبلا قريبا منه ، وشد به على ناصية القلع .. عله يشيل .. ولكن هيهات .. ! فقد كان الهواء معاكسًا والتيار القوى يرد السفينة إلى الخلف أكثر مما يدفعها القلع إلى الأمام .. حتى وقفت المركب فى وسط النيل ، كأنها لا تتحرك ، أو كأنها تتراجع ..

وأخيرا صاح النوتى وهو يحول الدفة :
ـ حسن .. عباس .. هيا يا أولاد إلى المجاديف ...

فنهض إلى المجاديف أربعة من الشبان الأشداء ، ظهر أثر تجديفهم بعد قليل من الزمن ، فقد تقدمت المركب مغالبة التيار ، على أن النوتى لم يقنع بجهود الشبان الأقوياء فأخذ يهيب بهم ويحثهم بقوله :
ـ ما هذا .. ! ما هذا التجديف ..! رحم اللّه أيام الشباب .. كنا نقود أنا وصالح مركبا تحمل خمسمائة أردب ونحمل الأردب من القمح .. كما يحمل حسن حزمة من القش ..

فقال أحد الطلاب يمازح النوتى :
ـ ومع هذا فقد ضربك عبد المقصود وطير أسنانك ..
ـ من قال لك هذا يا بنى .. ؟ .. هل كنت حاضرا .. ؟

صحيح أنه ضربنى ولكنه لم يطير أسنانى .. وقد شكوت هذا الشاب الطائش إلى ربى فانتقم منه شر انتقام ..
ـ عندما يضربنى رجل على فكى الأيمن ، لا أدير له الأيسر ، وإنما أضربه على أم رأسه فأطير فكيه معًا ..

فسأله أحد الفلاحين وهو يضحك :
ـ وإذا ضربتك امرأة .. ؟
ـ أعرف كيف أرضيها .. !
ـ ها .. ها ..

واتجه الفلاحون جميعًا إلى هذا الطالب .. وقد كان كلامه طيب الوقع على نفوسهم .. وإن كانوا لا يتوقعون منه مثل هذا الكلام .

واعترض عليه أحد رفقائه :
ـ كيف تطير فك مخلوق بشرى مثلك .. هذه وحشية وفظاعة .. واجرام .. دع أمره إلى اللّه وهو خير مقتص ..
ـ هذا صحيح .. أنا مسلم بأنى لو ضربت انسانا مثلى على أم رأسه أعد فى نظر الناس ، ونظر الاجتماع وحشًا وفظًا غليظ القلب .. ولكن المرء فى مواقف كثيرة لا يملك أمر أعصابه ، وزمام نفسه .. يعود إلى فطرته ، إلى طبعه البكر قبل أن يهذب ويشذب ، فلا يرده حلم ولا يردعه زاجر .. عندما يضربنى انسان فيطير لى سنة لا أدعه حتى أحطم أنفه .. أفعل هذا دون وعى منى ، ثم بعد ذلك أفكر هل أحسنت صنعا بعمل هذا أم أسأت .. هل فى عملى هذا وحشية وجرم .. أفعل هذا ثم يأتى بعد ذلك دور التفكير ، ودور الندم .. من منكم يستطيع أن يغل يده إلى عنقه عندما يعتدى امرؤ على عزيز لديه .. ابنه .. فلذة كبده ..
ـ هذه أعمال اجرامية تجر إلى الفوضى ..
ـ هذا حق .. ولكنها قد تحدث عكس ما تتصور تماما ، فمتى عرفت أنك متى صفعتنى سأصفعك ، تراجعت وجبنت حتى ولو كنت أشجع الشجعان .. من منكم يجرؤ على صفعى الآن وأنا ألقيه فى النيل .. ! ..

فقال شيخ مهدم :
ـ أنا ..
ونهض .. فضجت المركب بالضحك ..

وكان عبد الحق ينصت إلى هذا الحوار الدائر بين الشبان باهتمام شديد .. والخواطر السابحة فى قرارة ذهنه قد طفرت وعادت تهيمن على شعوره ، ومازال يغالب انفعالات نفسه ، حتى غفل عما يدور حوله واستغرق فى أمر نفسه ، وهو شارد ساهم ..

ولما فتح باب منزله فى غلس الليل كان قد اعتزم أمرا ..

بارح عبد الحق منزله فى ليلة من الليالى وسار صوب المزارع ، وكان يمضى سريعًا وفى جسمه قوة لم يعهدها من قبل ، وكان مستريح الذهن هادىء البال ، قد أزاح عن صدره كل ما كان يثقله ، وصرف عن ذهنه كل ما كان يقلقه ويحيره فى الماضى ، ووجه نفسه إلى أمر واحد تجمعت فيه قوته وحيويته .. ولهذا شعر بدم الشباب يسرى فى الياف جسمه ، وبقوة عظيمة تحمله على المضى فى طريقه ..

وكان يرتدى رداء أسود فوقه عباءة من الصوف الثقيل ، وتحت هذه بندقية من النوع الجيد .. وكانت الليلة حالكة الظلام ، شديدة الريح ، والشتاء فى صميمه ؛ وبرده الحاد يقطع الأنفاس ويحبس الناس فى بيوتهم من الغروب فلا يتخلف من الفلاحين فى الحقول إلا أولئك الذين اتخذوا للشتاء عدته ، فبنوا لأنفسهم عرائش من عيدان الذرة ، وأشعلوا حولهم النيران وجلسوا يصطلون ..

وكان عبد الحق لا يقصد حقلا من الحقول البعيدة التى يتخلف فيها الفلاحون ، وإنما كان يقصد حقلا قريبا من القصب يطوق الجانب الشرقى من القرية ، كان يمر فيه علام كلما عاد من منزل المرأة التى يتردد عليها .. اتقاء للعيون ، ودفعا للشبهات ..

ولما بلغ هذا الحقل مضى قدما فى طريق ضيق بجانبه ، ثم ارتد إلى حيث اختار ودخل بين القصب ، وجلس متمددا يدخن ..

ومضت عليه ساعة .. وعادت بعدها إليه الهواجس التى كانت تبلبل خاطره من قبل ، رجعت إليه خواطر المتردد ..

رجعت إليه الصور التى تمر على المجرم قبل الساعة الفاصلة .. قبل ارتكاب جرمه بلحظات .. والتى يخرج منها وقد قطع بأمر .. وقف وقفة الرجل الحائر عند مفترق الطرق المتشعبة والذى لا يدرى من أين يمضى ويسير ..

عاد إلى إنسانيته ، وإلى طبيعة الخير فيه ، تذكر وتصور لأول مرة فى حياته أنه سيقتل إنسانا ، بشريا مثله من لحمه ودمه .. عربيا من جنسه .. شابا ناضر الأهاب فتى العود أمامه الحياة الطويلة ، وليس شيخًا مثله قد بلغ من العمر أرذله ؛ ومن الحياة منتهاها .. بيد أنه شاب متمرد .. شاب تمرد على الحياة ، وتمرد على الاجتماع ، وخرج على القانون ، وغدا مجرما .. ولكن من الذى دفعه إلى الاجرام ، من الذى رمى به فى هذه الطريق .. ؟ من الذى سلبه نفسه وقلبه وجرده من انسانيته ورجع به إلى وحشيته الأولى وجاهليته الأولى ، من الذى ألقى به إلى التهلكة فأصبح منبوذًا مطرودا ؟ من الذى فعل به كل هذا ؟ ظلام الجهل بلاء الفقر قسوة المجتمع ، هل فى هؤلاء الغلمان المهذبين من أبناء الأعيان الذى رآهم فى المركب منذ أيام متمرد .. ؟ هل فيهم جاهل تقرأ على وجهه دلائل الإجرام كما تقرأ على وجوه هؤلاء الريفيين الذين يتقاتلون على أتفه الأشياء ..

لماذا يقتل الإنسان أخاه الإنسان ..؟ ليأخذ بثأره .. ولماذا يأخذ بثأره ..؟ لماذا يفعل هذا ..؟ لماذا لا يدع الأمر لربه ..؟ وهو خير مقتص .. لماذا يثور هو الآن ويضطرب اضطرابا لم يعهده فى جسمه .. ؟ لماذا يتراجع بعد أن أجمع أمرًا .. لماذا يفكر هكذا .. ؟

لماذا قتل هذا المجرم ابنه .. ابنه الوحيد الحبيب نعمان .. مبتغاه فى هذه الحياة الدنيا ، ضربه ورماه فى جوف الترعة فى هذه الصورة المنكرة .. ؟

وأصبح عبد الحق لا يرى الآن إلا ابنه .. ولم يكن يراه وهو يعمل فى الحقل ، أو وهو راجع من المزرعة ، وإنما رآه وهو ملقى فى بطن الترعة مضروبا كأحقر الكلاب ..

وهاج على هذه الصورة هياج الليث الكاسر .. ومسح العرق ، ورمى طرفه إلى أقصى ما يبصر ..

وسمع حسا فأنصت وسدد بصره ، وانبطح على وجهه ، وألصق البندقية بكتفه الأيمن .. وصوب ماسورتها من بين عيدان القصب ، وكان قد تخير مكانا مناسبا فى بطن الحقل يشرف منه على طريق صاعد قرر أن يأخذ فيه غريمه .. وجذب أكرة البندقية وسمع حركة الرصاصة تندفع إلى الماسورة متهيأة لضغط الزناد .. وكتم أنفاسه وأنصت .. ومرت ساعة رهيبة وعاد كل شىء ساكنا موحشًا ..

وتحركت عيدان القصب ، ورجعت الرياح تعصف ، واشتد البرد واستولى على عبد الحق القلق ، وخاف أن تفلت منه الفرصة .. وسمع فجأة حس إنسان ووضح الصوت وكان يعرف صاحبه ، فتراجع إلى الوراء خطوات وعينه لا تتحول عن الطريق ، وقرب صاحب الصوت .. وكان سقاء القرية يمشى وراء حماره الذى حمله بالقرب حتى انحنى ظهره ، وهو يضربه ضربا موجعا مع أنه ضامر هزيل أعرج .. ولما قرب السقاء من مكمن عبد الحق تلفت .. كأنه يسمع أنفاسا .. ثم مضى وراء حماره وقد حلى له أن يغنى ..

وعاد عبد الحق إلى مكانه الأول ، وقد شعر بعد مرور هذا السقاء بالارتياح الشديد ، وقد انتفت عن رأسه الهواجس التى ساورته أول الأمر ، وهو متردد بين الاقدام والاحجام ؛ وعاوده الحنين إلى الانتقام وأصبح فى الساعة التى تمر على المذهول ، وقد وقفت سلسلة أفكاره جملة ، وغفل عن كل شىء حوله إلا ما انتوى ..

وكانت الرياح كلما توغل الليل تزداد شدة وعصفا ؛ فثارت ثورة النيل ، وهاجت مزارع القصب وتمايلت بساتين النخيل ، وتطايرت فروع الزرع الجافة واغبر الجو واكفهر ، فجمع عبد الحق حواسه كلها فى باصرته ورقب الطريق ..

ولاح على بعد شبح انسان ، ثم رجل فى ثوب داكن وقد غطى رأسه وعنقه .. وكان ثابت الخطوة يمشى على مهل ، ولا يعير باله لما يجرى حوله ، ولما قرب من مكمن عبد الحق تمهل فى سيره جدًا ، وتلفت كالمذعور .. وهنا صوب عبد الحق ونشن وضغط على الزناد .. وبصر به يهوى مع ومض البارود .

***

أخذ عبد الحق سمته إلى المقبرة لأول مرة بعد حادث ابنه ولقيه فى الطريق وهو راجع منها قبل الفجر مجذوب من هؤلاء المجاذيب الذين يترددون على الأذكار فشخص فى وجهه ثم مد له يده وعلى شفتيه إبتسامة بلهاء وقال له :

إنا لله

فانتفض عبد الحق ومد إليه يدًا ترتعش والتقت أعين الرجلين ، وكانت عينا المجذوب تلمعان فى بلاهة وخبث .. أما عينا عبد الحق فقد أخذتا تنطفئان بالتدريج ..

===============================
نشرت القصة فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " فندق الدانوب " سنة 1941 وأعيد نشرها فى مجموعة " قصص من الصعيد " عام 2002 من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر بالقاهرة
=================================