الثلاثاء، ٢١ نوفمبر ٢٠٠٦

سوق السبت ـ قصة قصيرة ل محمود البدوى


سوق السبت
قصة محمود البدوى

كان غطاس أحد تجار الأقمشة الذين يذهبون إلى سوق السبت فى قرية رافع .. وهى قرية صغيرة فى قلب الصعيد .. وكان أول من يدخل سوق القرية بحماره الرمادى الأشهب .. وأول من يجلس تحت المظلة الطويلة فى ساحة السوق .. وآخر من يبرح السوق من التجار ..

وما من قروى لم يعرف غطاس أو يتعامل معه .. أو يشترى منه « غزلية » أو ثوب دمور أو جلابية زفير .. وما من قروية لم تشتر منه طرحة أو منديل رأس .. أو جلد الفيل ..

ــ صباح الخير ..
ــ خير عليكى ..
ــ جايباها منين الجلابية دى ..
ــ من عند غطاس ..

وكان غطاس يتردد على سوق السبت منذ سنين .. وهو آمن مطمئن على بضاعته وماله .. لأن القرية آمنة وعمدتها الشيخ مهران .. رجل قوى مرهوب الجانب ..

فما من حادثة قتل أو سطو أو سرقة وقعت فيها وهو عمدة ، وما من حادثة واحدة سجلها دفتر الأحوال فى المركز ..

وكان الفلاحون يذهبون بمواشيهم إلى الحقول ويعودون منها فى ظلام الليل فلا يعترضهم مخلوق .. ويكومون المحاصيل فى الأجران ويتركونها فى حراسة الغلمان .. ولا يجرؤ انسان على الاقتراب منها أو مد يده إليها فالجميع يعيشون فى أمان مطلق ..

وكان الشيخ مهران مع قوته وجبروته تقيا عادلا .. يأخذ من الأقوياء للضعفاء ، ويسوى الأمور بين الناس على أحسن وجه .. وكان الجميع يعتبرونه أبا كبيرا .. حتى قلت المنازعات والخصومات بين الفلاحين أمام القضاء ..

ولذلك روع الناس وذهلوا عندما وجد غطاس مقتولا ذات يوم وهو عائد من السوق ..

وكان الشيخ مهران فى ذلك الوقت مريضا مرضا خطيرا حتى يئس أهله من شفائه وصوتوا عليه فعلا ذات ليلة ..

ولذلك كتم وكيل العمدة عنه الحادث وهو يرتعش من مجرد تصوره ما سيحدث لو علم .

وعلم العمدة أخيرا بالحادث فثار ثورة عنيفة ..
وسأل الشيخ عبد الرازق وكيل العمدة ..
ــ هل عرفت القاتل .. ؟
ــ الولد عبد الموجود .. كان بايت فى المسطاح .. جنب الجسر .. ومر عليه غطاس ..
ــ عبد الموجود لا يجرؤ على قتل فرخة وأنا حى .. يا شيخ الخفر هات لى فطوم ..

وأسرع شيخ الخفر لاحضار فطوم ..

وكانت فطوم أرملة فى العقد السادس من العمر .. تسكن فى شرق البلد فى بيت على الجسر .. ولها ابن وحيد يدعى عليان .. وكان يعمل فى المزارع والنجوع البعيدة .. فى الغرب .. على العدوة الأخرى من النيل .. وكان فاسدا شريرا بدد فدانين تركهما له أبوه على « الغوازى » وفى المواخير فى المدينة ..

ولم تكن أمه فطوم تراه إلا قليلا .. لأنه كان يقضى الليل حيثما اتفق .. وكان مع الجراة الشديدة وحب المغامرة والتسلط ـ وهى الصفات التى ورثها عن أبيه ـ يخشى الشيخ مهران .. ولهذا هجر القرية ..

وكانت فطوم تملك على امتداد بيتها أربعة قراريط تزرعها بنفسها طماطم.. وبامية .. وملوخية .. وفجلا .. وبعض اللفت .. وتسقيها بسهولة من ماء الترعة .. وتعيش من ثمن هذا الخضار قانعة راضية .

وكان أهل القرية يرونها وهى ترفع وجهها إلى السماء ... داعية على ولدها العاق .. وكانت سافرة الوجه جسورة .. لم ينحن ظهرها بعد .. وقد اكتسبت من العمل المتصل فى حقلها الصغير صحة وقوة ..

***

دخلت فطوم على العمدة .. بعد أن وضعت بجانب الباب عصاها الطويلة من الجريد .. وكانت هذه العصا تلازمها دائما .. لأنها تحرس بها الخضار الذى تزرعه من الفروج .. والأوز والبط ..

وقالت وهى تحدق فى العمدة الراقد فى الفراش ..
ــ عوافى يا بو محمد ..
ــ عوافى .. يا فطوم .. لسه برضه قاعدة شديدة يا فطوم ..
ــ الصحة ليك يابو محمد ..
ــ فين عليان .. ؟
ــ ما عرفش يا حضرة العمدة .. لى شهرين ماشفته .. ولا وقع عليه نظرى.. قطيعه .. ربنا يفتكره برحمته .. ويأخذه .. قطيعه تقطعه ..
ــ الخفير اللى على البحر شافه معدى فى العشية ..
ــ أبدا .. يا حضرة العمدة .. أبدا .. واللّه ماجه .. وحياة الشيخ العريان.. وسيدى جلال ..
ــ طب روحى يا فطوم ..
ــ اللّه يخليك لينا .. ويشفيك .. ويوتق حزامك ..
وخرجت فطوم .. واجتازت ساحة الدوار .. ومشت متئدة الخطو رابطة الجاش .. من العرصة إلى الجسر وعصاها الطويلة فى يدها ..

***

ولم يصدق الشيخ مهران ما قالته فطوم .. وظل يبحث عن القاتل .. وبعد بضعة أيام وكان لا يزال مريضا فى فراشه .. سمع بكاء امرأة فى ساحة البيت .. فسأل عنها .. وعرف أنها نرجس زوجة غطاس .. جاءت لتشكو حالها .. وأمر بادخالها عليه .. فدخلت لابسة السواد وخلفها ثلاثة أطفال وعلى صدرها رضيع ..

وقالت وهى تبكى :
ــ جتلك بأولاد غطاس المساكين .. يا حضرة العمدة .. مين يوكلهم كلهم .. ودم أبوهم راح هدر .. ؟؟

ونظر الشيخ مهران إلى الأطفال اليتامى .. وتأثر وأخذ منه الحزن .. وقال لنرجس وهو يعطيها بعض النقود :
ــ خدى .. وروحى .. يا نرجس .. وانا عارف اللى علىّ ..
ــ دا كان بيجى السوق على حسك .. من عشرين سنة ما انسرقتش معزاية من بلدك ..
ــ روحى .. يا نرجس ..
ــ ربنا يبارك فيك .. ويشفيك ..

وخرجت نرجس تجر أطفالها ..

***

وبعد أيام قليلة عرف الشيخ مهران القاتل .. ولم يكن غير عليان الذى خطر بباله لأول وهلة .. وعرف الشيخ مهران أن عليان بعد أن قتل غطاس وسرق الثلاثين جنيها التى كانت معه فى جيبه .. ألقى كيس القماش فى النيل.. وذهب إلى صاحب له فى النجع ..

وظل الشيخ مهران وهو فى فراشه يتقصى أخبار عليان حتى علم ذات ليلة أنه عبر النيل فى غبش الظلام ومعه بندقيتة وذهب من شروق البلد إلى أمه.. فأرسل الخفراء ليطوقوا البيت ..

وقال لشيخ الخفر :
ــ عاوزه .. حى ..

وبعد قليل علم الشيخ مهران أن عليان أحس بالخفراء قبل محاصرة بيته .. وهرب كالثعلب ..

وخشى الشيخ مهران أن يفلت منه القاتل إلى الأبد .. فتحرك من الفراش وهو ينضح عرقا .. وتناول بندقيته وخرج من بيته .. ولما رآه خفير الدرك جرى وراءه ليرافقه ..

فقال له الشيخ مهران :
ــ خليك يا عباس .. وخذ بالك من النقطة .. وقل لشيخ الخفر أن رجع فاضى .. يطوق جنينة عبد الكريم .. يمكن الولد فيها ..

وسار الشيخ مهران على الجسر وحده .. وكانت مياه الفيضان تغمر الأرض كلها والظلام رهيبا .. وكان الرجل مع مرضه يمشى قويا وقد جمع حواسه كلها فى باصرته .. وكان قد لبس رداءًا خفيفا أسود .. وتلثم .. وتمنطق بحزام وضع فيه أكثر من مائة طلقة .. فإنه يعرف جيدا الرجل الذى يطارده ..

وكان يفكر فى الأرملة المسكينة نرجس وأطفالها .. والظلام الذى شملهم والبؤس الذى تردوا فيه .. والجوع الذى ينتظرهم دون جريرة أو ذنب جنوه فى الحياة ..

وكان يغلى غيظا لمجرد تصوره أن عليان هذا الشرير .. سيفلت منه دون أن ينال القصاص .. كان يريد أن يجتث الشر من جذوره .. وتحت تأثير هذا وهو مريض .. وسار وقد شعر بقوة خارقة تدفعه إلى التقدم .

وبعد ساعتين عثر على عليان فى ماكينة رى .. وأدرك الشيخ مهران بعد الرصاصات الأولى التى أطلقاها .. أن المجرم منبطح على سطح الماكينة ويحتمى بصهريج المياه والاقتراب منه فى هذه الحالة انتحار مؤكد .. فدار يتلصص ويخوض فى القنوات .. حتى تسلق مرتفعا يشرف على بناء الماكينة .. وأطلق الرصاص .. وتصارع الرجلان صراع الجبابرة ..

وأدرك عليان من أول رصاصة أطلقت أنها ليست بندقية شيخ الخفراء ولا بندقية خفير .. وأن الذى أمامه رجلا آخر .. رجلا كان يخشاه أكثر من الموت .. ويتصور أنه لن يترك الفراش أبدا .. وأنه راقد هناك .. ولكنه تحرك وجاء ليطارده .. وصوت بندقيته يدوى وقد خرج إليه وحده .. وليس معه خفير واحد .. لا ليقبض عليه وانما ليفعل شيئا آخر ..

وثار عليان وأطلق الرصاص فى جنون .. ولكن الشيخ مهران أسكته إلى الأبد .. فخر فى معجنة للطوب صريعا ..

***

ورجع الشيخ مهران يمشى على الجسر وحده وقد سكن الليل وعاد السكون يلف كل شىء ..

وخرجت القرية كلها على صوت الرصاص تستطلع الخبر .. وعلموا أن العمدة المريض .. خرج وحده فى الليل .. وقتل عليان ..

وسار الشيخ مهران على الجسر .. وخلفه الفلاحون يباركونه .. وقبل أن يدخل مدخل القرية صوبت إليه رصاصة .. وسقط ..

***

ورأى الناس فطوم .. واقفة على سطح بيتها وبيدها بندقية .. وكانت منتصبة القامة .. شامخة الأنف .. وكان منظرها وهى واقفة يلقى الرعب فيمن حولها .. فلم يجرؤ انسان على الاقتراب منها ..

===============================
نشرت القصة فى مجلة الثورة 9/9/1954 وبمجوعة قصص لمحمود البدوى " العذراء والليل " وأعيد
نشرها فى مجموعة " قصص من الصعيد " من اعداد وتقديم على عبد اللطيف و ليلى محمود البدوى ـ مكتبة مصر 2002
================================

ليست هناك تعليقات: