الصقــــــر
قصة محمود البدوى
اشـتهر " الخـط " فى الصـعيد وأصـبح اسـطورة ، واشتهر " زهران " فى رقعة الدلتا وكاد يصبح اسطورة .
ولم يكن أحد يدرى كيف استوطن قرية " النخيل " وعاش فيها ، إذ لم يكن له أهل ، ولا بيت فى القرية .
وعندما دخل القرية لأول مرة ، ومشى فى دروبها ، وكان فى ذلك الوقت فى الثلاثين من عمره ، لم يجد أمامه غير دكان " عبد الحليم " فابتاع علبة سجاير ، وجلس على المصطبة هناك .
ثم أصبح المالك للبيت الملاصق للدكان . وكان يزرع قطعة الأرض ، ليعيش من غلتها كغيره من الفلاحين . ثم انقطع عن الزراعة ، وأصبح يعيش من طلقات الرصاص ..
كان الناس يؤجرونه لقتل أعدائهم وغرمائهم نظير أجر قليل .. ثم ارتفع الأجر لما قويت سطوته وذاع صيته .
وفى مدى سنوات قليلة أصبح الخط البيانى لشهرته يتحرك فى صعود ، ككل فتاك فى الريف .
وكلما ازداد جبن الناس فى القرية التى يعيش فيها ، والقرى المجاورة لها .. اشتدت سطوته وجبروته ، وطار اسمه فى المنطقة حتى أصبح مكمن رعب الناس جميعا ، وأصبحت الأمهات يخوفن به الأطفال .
وهو مع كل صفاته .. ولكنه اتخذ لنفسه خطة حمدها له الناس فى القرية .. ذلك أنه ابتعد بجرائمه عن القرية التى يقيم فيها .. فلم يكن يقبل أن يؤجر ليقتل أى شخص من أهلها .. ابتعد عن دائرتها كلية .. وعاشت القرية فى أمان من شره ..
ولكنه كان يقبل التحرك فى كل ما عداها من القرى ، ويسافر وراء الطريدة .. يركب القطار ، والسيارة ، والخيل ، والبغال والحمير .. وحتى الجمل .
ويستعمل البندقية والمسدس .. ويصيب من أول طلقة .
ولم يكن أحد يدرى من أين أوتى براعة التسديد ، كان نادر المثال فى التصويب .. قوى البصر ، ثابت اليد ، رابط الجأش ، يطلق النار وهو على ظهر الفرس ، وهو فى جوف السيارة ، وهو منبطح فى الجرن ، وهو كامن فى المزارع .
وكان فى صباح اليوم الذى يكون قد أطلق فيه النار بالأمس ، وأزهق روحا بشرية لاذنب لها .. يجلس فى مقهى صغير على " الرياح " يدخن الشيشة ويتحدث فى مرح مع صحبة .. هادىء الأعصاب .. ثابت الجنان .. لاتحركه حتى الزلازل .
ومن حوله الاتباع من ضعاف النفوس ، وحثالة البشر ، يسبحون بجسـارته ، ويشـيدون بصـفاته ، فيزيدونه صلفا وضراوة .
ومن المقهى كان يتحرك إلى البيت ، أو إلى الطريدة .
وكانت الحوادث تحدث وتمضى .. وتطوى صفحاتها ، لأن أحدا لايجرؤ على اتهامه .. جميع الدلائل والقرائن تشير إليه ، ولكن اسمه لايجرى على لسان شاهد فى التحقيق .
وكلمــا مرت الأيام ماتت أرواح الناس ، وضاعت نفوسهم ، تحت جبروت هذا الشرير .. وتخاذلت قواهم ، وضعفوا ، واستكانوا ، فلم يواجهوا الشر ، ولم يتصدوا له .. وجعلوه يستشرى ويتضخم .
وجعلهم الرعب لايحرسون فى الليل أجرانهم ولا محاصيلهم ، ولا مواشيهم .. وكثرت حوادث السرقة والسطو .. واضطرب زمام الأمور .. وانخفض المحصول وقل المال ، وكثرت بينهم الدسائس والفتن .
خيم الرعب فأفسد جو الحياة .
وحاول نفر من العقلاء فى القرية أن يجعلوا الناس يتنبهون لهذا الشر .. ويستأصلونه من جذوره .
ولكنهم كانوا يرتدون خائبين ..
ويقال لهم :
ـ ما دام يبعد بشره عن القرية .. فلا شأن لنا به ..!
ـ انه سيتحول اليكم بعد أن يفرغ من سواكم ..
ـ انه بعيد عنا .. ولا داعى لاثارة غضبه ..!
هكذا استمر " زهران " يصول ويجول فى الميدان ..
***
ولكن حدث ما هز من جبروته بضعة أيام .. لأمر لاعلاقة له بالجسارة وبطلقات الرصاص ، فقد تقدم ليزوج ابنه " سالم " من فتاة أسرة معروفة فى القرية ، فرده والد الفتاة ، وصرفه بالحسنى .. ويقال انه قال له كلاما أغضبه .
وكثر اللغط فى القرية بعد الرفض .. وكان الناس يتوقعـون أن يثور " زهران " ويقتل الشيخ صابر والد الفتاة .
ولكن لم يحدث شىء من ذلك .
والحادث على بساطته ، ومع أنه يمكن أن يحدث لأى شخص يتقدم للزواج .. فاحتمال الرفض والقبول مألوفين فى مثل هذه الحالات .. ولكنه مع " زهران " بجبروته يتخذ شكلا آخر .. فقد هز الرفض صلفه .. والأمور يأخذ بعضها برقاب بعض ، بالنسبة للشخص الجسور فعندما يميل ميزانه فى شىء يميل فى كل شىء ..
***
فى وقت الظهيرة وكانت شمس يوليو حامية ، انطلق كلب مسعور فى دروب القرية .
وطارد غلاما صغيرا ، ومزق ثوبه وعلا الصراخ ، وتجمهر الأهالى وراء الكلب بالعصى والنبابيت .. وسمع " زهران " بالخبرثم رآه .. وكان جالسا فى دكان " عبد الحليم " ورأى الناس جميعا تنظر إليه كالمنقذ الوحيد من ضراوة هذا الوحش .. فتناول بندقيته سريعا وجرى وراء الكلب ، الذى أخذ الفلاحون يطاردونه فى العرصة ، وهو يفتح عليهم أنياب وحش كاسر .. وقد انقلب بعد السعار الذى أصابه إلى ضبع .
وصوب " زهران " بندقيته وأطلق ولكنه أخطأ الكلب .. فتلفت الناس بعضهم إلى بعض بعد أن رأوا الحسرة على وجه الصياد .
وتقدم الكلب الذى أخطأته الطلقات فى وثبة الليث ففزع الأهالى وانتابهم الرعب .
وفى هذه اللحظة اطلق غلام فى الخامسة عشرة من عمره النار .. فخر الكلب صريعا .. وذهل الناس ..
وسأل " زهران " وقد اصفر وجهه :
ـ من هذا الغلام .. أمن بلدنا ..؟
ـ أبدا إنه من تلوانه ..
ـ ابن من ..؟
ـ انه حسن ابن المرحوم عبد الغنى ..
فحملق فيه " زهران " وارتعش بدنه وسأل :
ـ هو .. عبد الغنى له ولد ..
ـ أجل .. وكان فى بطن أمه .. عندما قتل والده ..
وانفضت الجموع ، وشعر " زهران " لأول مرة فى حياته بالتخاذل ..
***
وبعد أيام قليلة من حادث الكلب .. تسلق ذلك الغلام حائط المنزل الذى يقيم فيه " زهران " وعرف قاعته .. دفع الباب برجله فى الظلام ، ولما دخل القاعة لم يجد فيها أحدا .. وفتش عنه فى كل مكان فى البيت فلم يجده ، فأدرك أن ذلك الخنزير لاينام فى بيته قط .. ولم يفعل ذلك أبدا منذ أخذ يطلق النار على الناس ..
كان فى الواقع أكثر منهم جبنا .
وكان شبح القتلى يطارده فى الليل .. وتوقع القصاص ، ولذلك كان يغير مكانه ، وفى كل ليلة ينام فى جهة .. مرة فى ساقية .. ومرة فى مزرعة ، ومرة أخرى فى جرن ، وأخرى رابعة فى بستان نخيل ..
ومضت أسابيع .. والغلام الذى ربته أمه منذ شاهد نور الحياة على أن يثأر لأبيه .. لم يكن يشغل تفكيره أمر غير هذا .. ولكنه كان متأنيا يرسم الخطة باحكام وصبر ، ويريد قبل كل شىء أن يمحو من أذهان الناس الهالة التى كونوها عن هذا الشيطان .. فهو رجل عادى .. ككل الناس ويحس بالخوف مثلهم .. ويكون أحيانا أجبن من الكلب .. ويطلق النار .. ويخطىء ويصيب كأى رجل .. ولكنه أحاط نفسه فى براعة بنفر من الأتباع ضخموه .. وضخموه .. وهذا هو مكمن الرعب ..
وتحرك الغلام ذات ليلة ، ووقف على رأس " زهران " وهو نائم فى بستان فأيقظه بحذائه .. وفتح هذا عينه مرعوبا ..
وقال له الغلام والرشاش فى يده :
ـ اننى لست جبانا مثلك حتى أقتلك وأنت على هذه الحالة كما قتلت والدى .. أصح ..
وتصارع الصقر مع الشرير مواجهة واشتد الصراع وأطلق " زهران " ثلاث رصاصات .. وصرع الصقر الشرير من أول طلقة ..
وعندما علمت القرية بمصرعه ، انتقل الخبر بسرعة الهشيم إلى كل القرى المجاورة ، فخرجت الجموع كالسيل الهادر ..
وجروا الجثة على السكة الزراعية .. وانفجر غيظهم ليمزقوها ويشوهوها .. ولكن " الصقر " منعهم وهو يزمجر غضبا ..
وصاح فيهم :
ـ للجثة حرمتها .. أيها الجبناء .. حتى ولو كانت للشيطان ..
ووقف يحرسها حتى دفنت ..
وحلقت حمامة بيضاء فى الجو .. ولم يكن أحد قد شاهد الحمام يحلق منذ سنين وسنين ..
=================================
نشرت بمجلة الثقافة المصرية بالعدد 24 فى سبتمبر 1975 وأعيد نشرها بمجموعة الباب الآخر لمحمود البدوى عام 1977
=================================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق